استشراف المستقبل (15) | الخصائص المنهجية

استشراف المستقبل (15) | الخصائص المنهجية

2021-01-02 9:31 ص
الكاتب :

استشراف المستقبل: (15) الخصائص المنهجية

 

تواجه المجتمعات الحديثة الكثير من المشكلات المعقدة متعددة الجوانب. ذلك أنّ المجتمع الحديث عبارة عن منظومة بشرية مركبة لها بنية اجتماعية وهيكل اقتصادي ومؤسسات سياسية وتكوين ثقافي. وبالتالي فإنّ ذلك قد وضع المجتمعات أمام خيارين: إما خلق نوع من التوازن بين التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية، أو اختلاط الأولويات وضعف الميل إلى التغيير وغلبة الشكل على المضمون. وإذا تأملنا في تلك المشكلات لوجدنا أنها في مجملها ناجمةٌ عن غياب التفكير العلمي أو غياب إرادة السيطرة على الحاضر وصنع المستقبل.

 

ولعلّ الفيصل في نجاح الدراسات المستقبلية هو مدى ارتباطها الوثيق بمجموعة من الخصائص المنهجية التي تُعتبر الحجر الأساس في نجاعتها وجدوى فائدتها وتتمثل في النقاط التالية:

 

  1. الشمول والنظرة الكلية للأمور (holistic):

 

فليس من السهل الحديث عن دراسة مستقبلية للاقتصاد مثلاً في غياب رؤية مستقبلية للأوضاع السياسية، ولحالة العلم والتقنية، ولأوضاع السكان والموارد والبيئة، وللتغيرات في المحيط الإقليمي والإطار العالمي.

 

ومن المهم أن تدرس العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشابكها وتفاعلها مع بعضها البعض حتى تتوافر رؤية شاملة ومتكاملة لـمستقبل هذا الاقتصاد.

 

  1. مراعاة التعقيد (complexity):

 

أي تفادي الإفراط في التبسيط والتجريد للظواهر المدروسة، والتعمق في فهم ما يزخر به الواقع من علاقات وتشابكات ولا يقين وتحرك. وهو ما يتطلب النظر إلى الظاهرة المركبة في مجملها من خلال منهج عابر للتخصصات حيث لا يجدي التفكيك وفهم كيفية عمل كل جزء من أجزاء الظاهرة على حدة للخروج بصورة صحيحة عن سلوك مثل هذه الظاهرة، حتى لو تضمن ذلك اللجوء إلى حقول معرفية متعددة.

 

  1. القراءة الجيدة للماضي:

 

باتجاهات مضادة للاتجاه العام السائد، حيث إنه كثيراً ما تشكل الأخيرة مفاتيح جيدة لفهم الاتجاهات المحتملة في المستقبل. ومن جهة أخرى تشتمل القراءة الجيدة للماضي على القراءة الجيدة لتجارب الآخرين وخبراتهم واستخلاص دروس منها قد تفيد (بمنطق المحاكاة) في فهم آليات التطور وتتابع المراحل، وكذلك في التعرف على القيود على الحركة وإمكانيات تجاوزها.

 

  1. المزج بين الأساليب الكيفية والأساليب الكمية في العمل المستقبلي:

 

حيث ينذر أن تفي الأساليب الكيفية وحدها أو الأساليب الكمية وحدها بمتطلبات إنتاج دراسة مستقبلية جيدة. ومن جهة أخرى فقد ثبت أن تعدد الأساليب المستخدمة في دراسة ظاهرة ما والمزج بين نتائجها كثيراً ما يؤدي إلى نتيجة أفضل مما لو جرى الاعتماد على أسلوب واحد.

 

وعموماً يتيح المزج بين أساليب متعددة (كمية وكيفية) تجاوز قصور النظريات والنماذج التي تُبنى عليها عن طريق اللجوء إلى أساليب كيفية لمحاكاة الواقع بتفاصيله وتعقيداته الكثيرة، وللتعرف على ردود الفعل المحتملة لبعض التصرفات من جانب الفاعلين في النسق محل الدراسة.

 

  1. الحياد العلمي:

 

حيث إن المستقبل يدرس من خلال بدائل متنوعة، يمثل كل منها خياراً أو مساراً مستقبلياً يتوافق مثلاً مع رؤية أو مصالح هذه القوة الاجتماعية السياسية، أو تلك في المجتمع. لذا وجب دراسة البدائل بدرجة عالية من الحياد والموضوعية والأمانة العلمية وذلك عن طريق:

 

أ‌. التعرف على البدائل وعدم استبعاد بدائل معينة لمجرد الرفض لمنطلقاتها أو ادعاءاتها.

 

ب‌. بتحليل هذه الادعاءات واستكشاف تداعياتها وتقويم ما لها وما عليها وفق مجموعة معايير متفق عليها سلفاً.

 

  1. عمل الفريق والإبداع الجماعي:

 

وهذا يعني إنجاز الدراسة المستقبلية عن طريق فريق عمل متفاهم ومتعاون ومتكامل. فذلك أمر تفرضه طبيعة الدراسات المستقبلية التي تعتمد على معارف مستمدة من علوم متعددة تستوجب دمج هذه المعارف وفق منظورٍ أو إطار عابر للتخصصات. كما أن الجماعية مفيدة للوصول إلى تصورات ونظريات وحلول جديدة للمشكلات وذلك من خلال ما تتيحه من مواجهات بين المناهج والرؤى المختلفة لأعضاء فريق العمل.

 

  1. التعلم الذاتي والتصحيح المتتابع للتحليلات والنتائج:

 

الدراسة المستقبلية لا تنجز دفعة واحدة (one-shot exercise) بل إنها عملية متعددة المراحل يتم فيها إنضاج التحليلات وتعميق الفهم وتدقيق النتائج من خلال دورات متتابعة للتعلم الذاتي والنقد الذاتي وتلقي تصورات أطراف وقوى مختلفة وانتقاداتهم واقتراحاتهم والتفاعل معها من خلال اللقاءات المباشرة والأدوات غير المباشرة لإشراك الناس في تصور وتصميم المستقبلات. وكلما تكررت عمليات التفاعل والنقد والتقويم والاستجابة لها بالتعديل والتطوير في التحليلات والنتائج، ازدادت فرص الخروج بـدراسة مستقبلية راقية، لا سيما من زاوية ارتباطها بالواقع الاجتماعي، وازدادت معها فرص التأثير في الفعل الاجتماعي.

 

وأخيراً نصل إلى نتيجة مفادها أنّ استشراف المستقبل هو ضد العشوائية والاستسلام لمقتضيات الواقع أو ما سيقع. وهو في جوهره مجموعة البحوث المتعلقة بـالتطور المستقبلي للبشرية، مما يسمح باستخلاص عناصر توقعه ومحاولة سبر أغوار القادم منه بهدف التعامل معه ومحاولة تحسينه وتطويره وتثقيفه لمسايرة الجديد المتجدّد ومعايشة المستجدات ومراجعة الأصول والأطر التي تحكم الواقع لاستنباط آليات التعامل مع الوقائع.

 

المصدر

 

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments