التكنولوجيا والحكمة | د. محمد زهران
منذ فترة قصيرة بدأت في قراءة كتاب للكاتب الأمريكي (Tim Urban) بعنوان «ما هى مشكلتنا؟ كتاب تنمية ذاتية للمجتمعات» وهو كتاب ضخم يقع في أكثر من 700 صفحة ومتوفر إلكترونيا فقط، لا تجعل عنوان الكتاب يخدعك فهو ليس كتابا عن التنمية الذاتية لكنه كتاب يبحث التطور التكنولوجي وأثره على المجتمع الإنساني سواء بالسلب أو الإيجاب. وهذه نقطة انطلاق مناسبة لمقال اليوم.
التكنولوجيا تتطور بوتيرة متزايدة وهذه الوتيرة لن تنقص، بل ستزداد حتى في أوقات الحروب، الفرق في التقدم التكنولوجي بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين أقل بكثير من الفارق بين النصف الثاني من القرن العشرين وما نحن فيه الآن. يكفي أن أذكر أنه حتى السنة التي حصلت فيها على درجة الدكتوراه في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين لم يكن هناك سكايب أو زووم أو يوتيوب ولم تكن أغلب منصات التواصل التي نعرفها الآن قد ظهرت وكانت جوجل في بداية ظهورها على الساحة. مثال آخر: في سنة 1997 صنعت شركة أي بي إم جهاز كمبيوتر عملاق فائق السرعة يسمى (Deep Blue) مصمم خصيصا للعب الشطرنج وكان أول كمبيوتر يفوز على بطل العالم في الشطرنج آنذاك جارى كاسباروف.
هذا الجهاز كان كبير الحجم (بحجم دولابين كبيرين) وتكلف ملايين الدولارات. منذ نحو عشر سنوات أصبح أي برنامج شطرنج مجاني تضعه على هاتفك المحمول قادرا على هزيمة بطل العالم الحالي في الشطرنج وبسهولة. من المتوقع أن التقدم التكنولوجي سيتسارع أكثر وأكثر في المستقبل حتى أننا سنقيسه بالشهور وليس السنوات. السبب في هذا التسارع أن التكنولوجيا نفسها تعطى أدوات تساعد على الاكتشافات العلمية والتصنيع، فكلما تقدمت التكنولوجيا تقدمت تلك الأدوات وبالتالي تسرع من وتيرة التقدم العلمي والتكنولوجي مما ينتج أدوات أكثر تطورا تسرع الوتيرة أكثر فأكثر.
كل هذا يساعد على رفاهية الإنسان وسهولة حياته على هذه الأرض من وجود علاج لأمراض كانت مستعصية وسهولة التنقل وسهولة نقل المعلومات والذكاء الاصطناعي الذي تغلغل في جميع مناحي الحياة إلخ. كل ذلك جعل الإنسان يشعر بالقوة والسيطرة.
امتلاك التكنولوجيا يحتاج إلى أسرار العلم والتصنيع ويحتاج إلى مواد أولية للتصنيع وهذه المواد الأولية موجودة في أماكن محدودة في هذا العالم. أيضا التكنولوجيا المتقدمة تحتاج إلى مصادر طاقة كثيرة ويزداد الاحتياج كلما زاد التقدم. مصادر الطاقة أيضا ليست موزعة بالتساوي على خريطة العالم. كل تلك العوامل أدت إلى الحروب بين الدول والتشاحن بين الأفراد. أي إن التقدم العلمي يزداد وحكمة البشر تقل.
الأمثلة من التاريخ الحديث التي تدل على تطور غير مسبوق للتكنولوجيا مصاحبا له تدهور في «إنسانية» الإنسان وحكمته لا تعد ولا تحصى. على سبيل المثال هناك حربان عالميتان قتلتا عدة ملايين من البشر ودمرتا الكثير من البنية التحتية في دول عدة، هذه القوة التدميرية هي نتيجة التطور التكنولوجي الكبير، الحرب العالمية الأولى هي حرب الكيمياء (المتفجرات والقنابل إلخ) والحرب العالمية الثانية هي حرب الفيزياء (السلاح النووي)، ونتوقع أن الحرب العالمية الثالثة ستكون حرب الأمن السيبراني وحربا ثقافية بين الدول باستخدام القومة الناعمة والتي ستعتمد أكثر فأكثر على التكنولوجيا. الاحتباس الحراري نتيجة التلوث بدأت تظهر آثاره المدمرة في الكثير من بقاع المعمورة ومن المتوقع أن تزداد تلك الآثار بمعدل متسارع ما لم يتحد العالم لمحاربة ذلك.
الحروب البيولوجية والفيروسية موجودة لكن تضعها الدول في طي الكتمان، ولكن بين الحين والآخر نرى آثارها التي تكون إما نتيجة خطأ أو مقصودة. أي حرب ستظهر الآن أو في المستقبل ستكون أكثر تدميرا من سابقتها لأن التقدم التكنولوجي لا ولن يتوقف. وهنا من المهم أن نقول إن أغلب الأسرار التكنولوجية التي تخفيها الدول (والمتقدمة منها على وجه الخصوص) هي أسرار عن استخدام التكنولوجيا وليست عن التكنولوجيا نفسها، أي إن الجامعات الكبيرة قد يكون بها معامل أبحاث تنتج تكنولوجيا متقدمة للغاية وأبحاثها منشورة في المجلات العلمية ومتاحة للجميع، لكن كيفية استخدام تلك التكنولوجيا في الحروب وكيفية تركيب التكنولوجيات مع بعضها البعض هو السر وهو ما تخفيه الدول. مثال ذلك أن أبحاث الانشطار والاندماج النووي معروفة ومنشورة، لكن استخدامها فى صنع القنبلة الذرية (وهو ما يعرف بمشروع مانهاتن) كان هو السر الذي لم يكشف عنه الستار إلا بعد سنين عديدة.
ماذا عسانا أن نفعل إزاء ذلك؟ أعتقد أن هذا سؤال صعب جدا ويحتاج جلسات نقاش كثيرة، ولكن أعتقد أن النقطة الأساسية هي أننا يجب أن نفكر في أولوياتنا في هذا العالم: هل نريد التقدم التكنولوجي بأي ثمن؟ أم ماذا؟