الدراسات المستقبلية: ضرورة ملحة أم ترف فكري؟

الدراسات المستقبلية: ضرورة ملحة أم ترف فكري؟

2019-08-23 8:50 م

الدراسات المستقبلية: ضرورة ملحة أم ترف فكري؟

 

مقدمة

يقول ألبرت أينشتاين: “إنني أهتم بالمستقبل، لأنني -ببساطة -؛ سوف أذهب إليه”، على هذا الأساس فإن المستقبل بصورته العامة والمجردة، هو من اهتمام الأفراد العاديين من خلال سعيهم إلى تحسين وضعهم دائمًا نحو الأفضل. هذا من جانب، أما من جانبٍ آخر فإن الدراسات المستقبلية بصورتها العلمية تحظى باهتمام كبير جدًّا من قبل المختصين والأكاديميين والمعنيين خصوصًا في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية والتطور الهائل الذي يشهده العالم بأسره، لهذا فقد أعددتُ هذه الرؤية التحليلية للمستقبل والدراسات المستقبلية، ولا أعني أني أتيت بشيءٍ جديد بقدر ما أضفت صوتي إلى أصوات الكثيرين من الذين سبقوني في الكتابة لهذا الحقل الأكاديمي، والغرض من ذلك: هو لفت الأذهان لصنَّاع القرار والمسئولين والقائمين على الحكم؛ بضرورة إيلاء اهتمام أكثر بفحوى المستقبل والدراسات المستقبلية، والتي من شأنها أن ترتقي بالأداء المجتمعي للدول كافة، وعلى هذا الأساس فقد تناولتُ في طرحي هذا، النقاطَ التالية:

 

أولًا: تاريخ الاهتمام بالمستقبل والدراسات المستقبلية

ثانيًا: ما هي الدراسات المستقبلية؟

ثالثًا: أهمية الدراسات المستقبلية

رابعًا: معوِّقات الدراسات المستقبلية

خامسًا: إسهامات الدراسات المستقبلية

سادسًا: الدراسات المستقبلية: ما بين الضرورة الملحة والترف الفكري

 

أولًا: تاريخ الاهتمام بالمستقبل والدراسات المستقبلية

 

منذ أن نشأ الإنسان، عرف الخوف، وعرف التحدِّي لهذا الخوف. فقد استطاع الإنسان القديم أن يستخدم عقله، وراح يعملُ جاهدًا للانتصار على قوى الطبيعة وجميع مؤثراتها البيئية، وذلك من خلال ملاحظته للحيوانات التي كانت تعمل طوال فترة الصيف لغرض خزن غذائها في فترة الشتاء، مما يعني أن الإنسان قد بدأ يُفكر بالمستقبل منذ نشأته، وذلك لتأمين بقائه وتأمين غذائه ومأواه، وبعد ذلك؛ انتقل الإنسان القديم إلى مرحلةٍ أخرى من مراحل ترقُّب المستقبل: وهي مرحلة الزراعة وانتظار المطر، حيث كان الإنسان القديم سابقًا يمارس بعض الطقوس التي تعتمد على مراقبة مواقع النجوم والضرب في الرمال والسحر والشعوذة وقراءة الطالع؛ لكي يستطيع أن يسخر المستقبل لصالحه، عبر قيامه ببعض النشاطات الدينية التي تؤمِّن له الراحة النفسية والتطلع لمعرفة المستقبل.

 

ومن ثَمّ تطورت كثيرًا هذه الأنواع من الممارسات، وتحولت إلى أساليب أخرى غير الأساليب القديمة، من خلال ما حدث من تطورات وثورة صناعيّة كبيرة أدت إلى قيام نهضة فكرية واسعة النطاق، وحقيقة الأمر أن إقبال المفكرّين والمؤرّخين على دراسة التاريخ كان يحمل دومًا الرغبة الخفية فى محاولة استشراف المستقبل، ولم ينفرد العلماء أو الفلاسفة والمؤرخون بالعمل على الاقتراب من خفايا المستقبل بهدف الكشف عن إرهاصاتها وتكوين رؤية معينة لهذا المستقبل، بل كان للشعراء والأدباء دور خاص فى هذا المضمار، ويكفي للتدليل على ذلك؛ أن نُشير إلى مؤلفي اليوتوبيّات كأفلاطون وتوماس مور.

 

وكانت الأديان تنظر للمستقبل كحقيقة حتمية يتحرك إليها المؤمن دون أن يملك إمكانية تعديلها أو تحويل مسارها، وليس للمؤمن إلا التسليم بها كما أنزلت، ورغم أن الفكر البشرى قد عمد منذُ القدم إلى دراسة وتأمّل البُعدَين المعروفين للزمن، والمقصود بهما: الماضي والحاضر، إلا أن الاهتمام باستشراف المستقبل لم يغب مطلقًا عن ذهن قدماء الفلاسفة والمؤرِّخين والمصلحين، فظواهر العرافة والكهانة والتنجيم التي تميزت بها الحضارات القديمة فى مصر وبابل واليونان والهند؛ تدل على الاهتمام المبكّر الذي أولته البشرية في محاولة استشراف المستقبل وفهم مساراته.

 

وتختلف الآراء حول تحديد البداية العلمية للدراسات المستقبلية، إذ يرى البعضُ أنها ترجع إلى نهاية القرن الخامس عشر الذي شهد ظهور كتاب “توماس مور” المعروف باسم (يوتوبيا) حين طرح فيه تصوُّرًا مستقبليًّا للمجتمع المثالي الذي يخلو من كافّة أشكال الاضطهاد والظلم والأنانيّة، وثم تلاه فى نهاية القرن السادس عشر حتى الربع الأول من القرن السابع عشر كتاب الفيلسوف الإنجليزي “فرانسيس بيكون” باسم (أطلنطا الجديدة) وهو يطرح رؤية مستقبلية للعالم من خلال تصوره لمجتمع جديد يعتمد على العلم كوسيلة أساسية لتغيير العالم والسيطرة على الطبيعة وتحقيق مستويات حياتية أفضل للبشرية، بينما يعزو البعض الآخر أول محاولة لاستطلاع مستقبل الجنس البشري على أسس علمية إلى القرن التاسع عشر الذي شهد النبوءة الذائعة الصيت الخاصة بالسُكّان للإقتصادي الإنجليزى “توماس مالتوس”، الذي عرض فى دراسته عن (نمو السكّان) رؤية مستقبليّة تتَّسم بالتشاؤم لحل التناقض الاجتماعي الناتج عن الثورة الصناعية، المتمثّل في تزايد أعداد الفقراء وتصاعد احتمالات الصراع الطبقي فى ظل سيطرة الطبقة الرأسمالية في المجتمع البريطاني آنذاك، وتوقّع مالتوس أن يتم التغلب على هذا التنافس من خلال الأوبئة والمجاعات والحروب التي تتولى تصفية الفقراء وإيقاف تزايدهم المهدد لمصالح الفئات التي تتحكم في مصادر الإنتاج والثروة والنفوذ السياسي، ولكن لم تتحقق توقعات مالتوس، وتم حل هذا التناقض عن طريق آخر هو الاستعمار، إذ بدأت بريطانيا تتوسع فى انتزاع مناطق شاسعة من قارتي آسيا وأفريقيا. وقد ترتب على استغلال الموارد الطبيعية والبشرية لهذه المستعمرات تحسنًا ملحوظًا في أحوال الطبقة العاملة خصوصًا فقراءها في بريطانيا، ممّا ساعد على حل الصراع بصورة سلمية على حساب شعوب المستعمرات فى العالم الثالث.

 

ومن أبرز إضافات القرن التاسع عشر لعلم المستقبل ظهور عدد من الأعمال الروائية لجول فيرن (1828م-1903م) والذي استطاع من خلالها أن ينفذ ببصيرة حادة إلى مجاهل المستقبل، ويطرح العديد من التوقعات المثيرة للعقل والوجدان في روايات كان أشهرها (حول العالم فى ثمانين يوما) و(عشرون ألف فرسخ تحت سطح البحر)، وهناك إجماع بين مؤرخي علم المستقبل على أن الكاتب البريطانى “إتش. چى. ولز” قد قدّم إضافات بارزة فى تأصيل الاهتمام العلمي بالدراسات المستقبلية، وذلك من خلال العديد من دراساته ذات الطابع المستقبلي مثل: التوقعات (1901م)، واليوتوبيا الجديدة (1905م)، وشكل الأشياء المستقبلية (1933م)، وجميعها تدور حول استكشاف حياة وهموم الأجيال المقبلة. كما أن له كتابٌ صغير مشهور عنوانه “اكتشاف المستقبل The Discovery of The Future” ظهر في بداية القرن الماضي ولا يزال يُطبع حتى الآن ويتناوله الكثيرون بالدراسة والتحليل. وقد جسّدت أعمال “ويلز” روح التشاؤم التي طغت على أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتصاعدت بفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية خلال العشرينيات والثلاثينيات، وانتهت بالحرب العالمية الثانية.(*)

 

ثانيًا: ما هي الدراسات المستقبلية؟

 

يمكننا أن نقول: إن الدّراسات المستقبلية حالها حالُ جميع العلوم الاجتماعية الأخرى التي لا تحظَى بمفهوم شامل وجامع يتفق عليه جمهور المختصين والمعنيين، وذلك لأسباب كثيرةٍ أهمها: أن الدراسات المستقبليّة القائمة على أسس علمية هي من الحقول الحديثة نسبيَّا إذا ما قارنّاها بباقي الحقول الأخرى، ولكن على الرغم من اختلاف الباحثين في مفهوم وماهية الدراسات المستقبلية، لم يوجد تعريف شامل وجامع لها يمكن تعميمه واعتماده من قبل جميع المختصين والمهتمين بهذا النوع من الدراسة، إلا أن جميع من كتب وقدّم أطروحاته البحثية والأكاديمية من مختصين ومعنيّين ومهتمّين، قد أقروا أن هذا الحقل بشكل عام يهتم بكافة الأمور التي لم تحدث بعد والتي هي حادثة لا محال، وأن جميع الذين تطرقوا للدراسات المستقبلية أكدوا على الحلقة الزمنية المفقودة والتي هي حلقة المستقبل، بحيث أن جميع الأطروحات التي قُدمَت تواجد فيها استهداف لمعرفة وتوقع شيء مجهول لم يقع بعد وفقًا لمعطيات وعمليات حسابيّة ورياضية معينة تعطي احتمالات للمستقبل المجهول، وبذلك فقد عرّفها “وليد عبد الحي” على أنها “العلم الذي يرصد التغير في ظاهرة معينة ويسعى لتحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل، وتوصيف ما يساعد على ترجيح احتمال على غيره”(**)، ويذهب فاروق عبده وآخرون إلى تعريف الدراسات المستقبلية على أنها: “مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبليّة، والعمل على إيجاد حلول عملية لها، كما تهدف إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة للموقف المستقبلي، والتي يمكن أن يكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل“.(***)

 

وعلى هذا الأساس أرى أن الدراسات المستقبلية هي: “العلم الذي يحاول أن يوظّف ويسخّر المستقبل عن طريق استخدام أساليب علمية وإحصائية وكمية من خلال إجراء حسابات و معادلات رياضية في دراسة حالة معينة وتقديم احتمالات مشروطة تستهدف الفترة الزمنية القادمة لغرض مواجهة البيئة غير الواضحة وغير المستقرة”. وبهذا فإن الدراسات المستقبلية الحديثة هي التي تقوم على توظيف العلم والتكنولوجيا لغرض إضافة الرصانة البحثية وحصولها على أكبر قدر ممكن من القبول لدى البيئة العلمية و مجمع المختصين، وذلك لأن مثل هذا النوع من الدراسات أثارت جدلاً كبيرًا بين جمهور علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع، واعتبر البعض أن مثل هذه الدراسات لا ترقى إلى مستوى البحوث العلمية الرصينة، لأسباب عدة؛ أهمّها هو عدم اعتمادها على مبادئ وثوابت ومرتكزات علمية تجعلها ذات صفة أكاديميّة يمكن تقديمها لصناع القرار، حيث رفض الكثير من المعنيين والمختصّين بالعلوم السياسية والاقتصاد والاجتماع بالاعتراف بعلميّة هذه الدراسة ووصفوها أنها لا تمتاز بالشروط العلمية المعتمدة في أساليب البحث والتطوير العلمي، ومن جهة أخرى فإن الدراسات المستقبلية حظيت باهتمام واسع وكبير من قبل مجموعة من العلماء في الكثير من الاختصاصات، حيث صار هناك عدد كبير من المختصين في العلوم السياسية وعلم الاقتصاد والاجتماع يؤمنون بضرورة جعل هذا الحقل يأخذ حيزًا جيّدًا من الدراسة والتطوير وعدم اعتبار هذا الحقل نوع من أنواع التنجيم والضرب في الرمال كما كان هذا الاعتقاد سائدًا في الفترات الأولى لدخول الدراسات المستقبلية بصفتها العلمية إلى الحقل الأكاديمي.

 

ثالثًا: أهميّة الدراسات المستقبلية

 

إن كل هذا العناء والتعب الذي يبذله المختصين في علم السياسة والاقتصاد والاجتماع لا يمكن أن يكون بلا أهمية تذكر، ولهذا يمكننا أن نستشف ونستنتج هذه الأهمية الكبيرة للدراسات المستقبلية من خلال أهم النتاجات والأطروحات التي قدمها لنا المختصين في الدراسات المستقبلية للبشرية جمعاء، والتي ساعدت في اختصار الكثير من الأشواط المعرفية عبر تطوير المجتمعات والارتقاء بالشعوب وتطوير طرق التفكير الاستراتيجي وبذلك قننت الكثير من الهدر الحاصل في الموارد الموجودة للدول عبر رسم الطريق ووضع الخطط المستقبلية التي يجب على الدول أن تسلكها وتسير عليها لكي توظف مستقبلها بأفضل صورة ممكنة وبأقل إمكانية متوفرة، لهذا فإن من المهم أن تقوم الدول كافة بإعطاء المساحة الواسعة لهذه الدراسات ودعمها عبر فتح مراكز الدراسات المتخصصة في هذا المجال وتكثيف المشاريع التي تستند على أسس علمية معرفية نابعة من عقول ناضجة تتعامل مع الماضي والحاضر؛ للسعي إلى تسخير المستقبل بكافة مراحله.

 

وعلى هذا النحو تبرز أهمية الدراسات المستقبلية؛ لأنها تعطي للدول والمجتمعات والشعوب قدرة على التطور والنهوض والتقدم من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة لها، عبر استشراف المستقبل بطرق علميّة، ومن خلال إحصائيات ومعادلات رياضية تبدأ بدراسة الماضي (التاريخ) وربطه بالحاضر مرورًا بالمستقبل الذي يكون هدفًا للإنسان لكي يكون في وضعٍ أفضل مما كان عليه في حاضره وماضيه، ويمكننا القول أيضاً أن الدراسات المستقبلية كان لها الدور البارز في النقلة النوعية الكبيرة للثورة الصناعية، حيث بزغت الأهمية الكبيرة لاستشراف المستقبل من خلال علماء الاقتصاد والإحصاء الرياضي في تلك الفترة، من خلال هذه الدراسات التي قدمت عبر تنظيم عمليات الإنتاج وتصدير الموارد إلى مناطق كثيرة من العالم من خلال القيام بحساب كمية الإنتاج وكمية الاستهلاك ومقارنتها بمقدار التصدير وإعداد مدونات وجداول بكل هذه البيانات لفترات معينة، وبعدها إجراء مقارنات ما بين فترة وأخرى، ومن ثم معرفة أسباب التقدم والعمل على تطويرها ومعرفة أسباب التراجع والعمل على تجاوزها، وكل هذا يسير عبر بوتقة استشراف المستقبل، ومن أهم الأمور التي عززت أهمية الدراسات المستقبلية حديثًا في القرن العشرين وما بعده هو: ظهور عدد من الدول الناشئة الجديدة التي تبحث عن وسيلة للتغلب على التخلف الاقتصادي والاجتماعي لديها، والتي وجدت في دراسة المستقبل وسيلة للتنبيه على السلبيات المعتمدة حاليًّا، وكيفية اختيار سياسات بديلة لدرء تلك السلبيات في المستقبل.

 

فعن طريق الدراسات المستقبلية يتم وضع عدة بدائل معينة للمستقبل، توضح عدة مسارات مستقبلية قد تتخذها النظم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. وبالتالي فإن هذه الدول الناشئة يمكنها -بما توفره لها الدراسات المستقبلية من صور عديدة للمستقبل– أن تعمل من خلال سياسات معينة على الاقتراب من البديل الأفضل الذي يحقق لها غاياتها في تحقيق التنمية والقضاء على عوامل التخلف لديها. هذا فضلاً عن تطور أدوات المعرفة، وخاصــة أدوات التنبؤ وقياس الظواهر (الكمية والكيفية) التي ساعدت في ارتقاء العلوم الاجتماعية إلى مصاف العلوم الدقيقة.

 

إن الطابع المستقبلي الذي تضفيه الدراسات المستقبلية على أنماط تفكيرنا في مختلف القضايا التي تشكل محورًا لاهتمامنا، فهو علامة مهمة من علامات النضج العقلي والمعرفي. وذلك أن ما نتخذه من قرارات متتابعة، وما نقوم به من تصرفات متزامنة فى الحاضر سوف يؤثر بصورة أو بأخرى على مستقبل أوضاعنا الحياتيّة، وكذلك أوضاع الأجيال اللاحقة. وهنا تساعدنا الدراسات المستقبلية في استطلاع هذه النتائج والتداعيات على المسارات المستقبلية، مع إمكانية التفكير في المسارات البديلة المحتملة. ومن ثم فإن الهدف الرئيس للدراسات المستقبلية لا يتعلق بعملية الإنباء بالمستقبل كهدف محوري في حد ذاته؛ فكل ما تقدمه الدراسات المستقبلية من مقولات حول المستقبل إنما هي مقولات شرطية واحتمالية، وكونها كذلك يجعلها غير قطعية الحدوث، وإنما هي تصورات معينة يُنتظر أن تتحقق في ضوء توافر شواهد منطقية معينة، تُرجح من فرص وقوعها.

 

رابعًا: معوقات الدراسات المستقبلية

 

إن معوقات الدراسات المستقبلية تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن بيئة لأخرى، ولكن من أهم هذه المعوقات التي تعاني منها الدراسات المستقبلية في العالم أجمع هو: عدم وجود إطار نظري وتأطير معرفي كافٍ للإسهام في زيادة كفاءة مثل هذا النوع من الدراسات، بمعنى آخر: إن الدراسات المستقبلية تعاني من قصور في التنظير والتطوير المعرفي لها، وعدم وجود اهتمام كبير من قبل المختصين خصوصًا المتخلفة منها؛ لضعف الإمكانيات المادية والقدرات البشرية وغيرها من الأمور التي تأتي من مشاكل تتمحور حول الكثير من الأمور المتعلقة بالعادات والتقاليد و الإيمان المطلق بالأمور القدرية، أي أن الدين في بعض الأحيان يعد سببًا رئيسيًّا في تحجيم دور الدراسات المستقبلية، ولا أقصد هنا دينًا معينًا، بل على العكس من ذلك فإن الأديان السماوية كلها حثت على العمل من خلال فلسفة الثواب والعقاب، وهذه الفلسفة بحد ذاتها تقوم على أسس مستقبلية، ولكن المقصود هنا هو الفهم الخاطئ للدين خصوصا في فهم الحياة اليومية للبشر باعتبارها قدرًا مسلّمًا لا مفر منه، وأن على الإنسان أن يبقى ساكنًا وهامدًا أمام جميع العقبات التي تصادفه لأن القوى -بمختلف مفاهيمها- الخفية كفيلة في جعل الأمور على ما يرام، هذا هو بحد ذاته يعد من الأسباب التي أدّت إلى تعويق الدراسات المستقبلية وعدم قدرتها على التطور في بعض المجتمعات بسبب التمسك بمثل هكذا معتقدات هذا من جانب.

 

أمّا من جانب آخر فيمكن أن نقول: إن المستوى التعليمي والثقافي للشعوب تعد عاملًا مهمًّا في تطوير المجتمعات، والعكس صحيح، أي أن كل مجتمع يعاني من مستويات منخفضة في التعليم سوف ينعكس بدروه على طبيعة التقدم في المجتمع، وبالتالي فإن المستوى التعليمي المنخفض للفرد داخل المجتمع هو من الأسباب المهمّة في جعل الدراسات المستقبلية مهمشة وليست بذات جدوى ونفع، ومع كل ذلك يمكن أن نضيف إلى كل هذه المعوقات عامل آخر وهو: طبيعة التأثير الشخصي للقائمين على الدراسات المستقبلية، بمعنى أن الفرد القائم على هذه العملية مهما حاول أن يتجرد من عواطفه ومؤثرات بيئته ودينه وانتماءاته العِرقيّة والقوميّة والمذهبية فإنه في النهاية لا يمكن له أن يتسم بالحيادية مهما حاول؛ وذلك -ببساطة- لأن الشخص الذي يقوم بهذه العملية ليس بالآلة أو بجهاز حاسوب يقوم بمعالجة البيانات وإخراجها، وإنما يمتلك عواطفًا ومشاعرًا تؤثّر كثيرًا على تحليل وتكوين الرؤية الاستشرافية.

 

خامسًا: إسهامات الدراسات المستقبلية

 

منذ أن وجدت الدراسات المستقبلية وعرفها الإنسان سواءًا بصورتها العلمية الحديثة أو بصورتها القديمة التي كانت تعتمد على التبصير والضرب في الرمال ومتابعة مواقع النجوم وما إلى ذلك، هذه النتاجات كلها والتي برزت من الدراسات المستقبلية أسهمت وبشكل فعّال في المجتمع سواءًا في الجانب السلبي أو الايجابيّ، لذى فإن الحديث عن إسهامات الدراسات المستقبلية وما قدّمتهُ من نتاج مادي أو معنوي للبشرية بشكل عام يمكن أن تلمس من خلال البحث في إسهامات الدراسات المستقبليّة والإنتاجات التي قدمتها للبشرية وساعدت الدول خصوصًا في قطع أشواطٍ كبيرة وواسعة.

 

لقد قدم لنا القائم,ن على الدراسات المستقبلية إسهامات كبيرة أصبحت في ما بعد قواعد يحتذى بها سواءًا من الناحية الماديّة أو المعنويّة عن طريق النهوض والرفع بمستوى الدّول، من خلال تقديم المشاريع والدراسات الاستشرافية التي توجه الدولة، وتعيّن لها الطرق التي يجب أن تسلكها لكي تنهض بنفسها عن طريق توظيف كافة الإمكانيات التي تتوافر للدولة واستغلالها بطرق علميّة مبنية على أساس دراسات مخطط لها من قبل القائمين بعمليّة الدراسات المستقبلية، (واستغلال الموارد البشرية والإمكانيات الاقتصادية وتوظيفها مع ما هو قادم من المستقبل تحت إطار علميّ يقوم على أساس التوظيف العلمي للموارد لاستشراف المستقبل المجهول، والذي يصبح واضح المعالم عند الدراسات المستقبلية التي تبنى بصورة علمية صحيحة) هذا ناهيك عن ما يشهده العالم الان من قفزة كونية تكنولوجية في مجال الالكترونيات وأساليب الحسابات الرقمية والأقمار الصناعية التي تُرفِد صانع القرار بالمعلومات والصور، وبدوره يحولها إلى خبراء السلطة القائمين على بناء النموذج الصحيح والطريق الذي يجب أن تسلكه الدولة في المستقبل بناءًا على معطيات الحاضر وخبرة الماضي، وهذه المؤسسات التي تدعى بمؤسسات خبراء السلطة، هي إما مؤسسات مستقلة عن الدولة أو تابعة لها.

 

كالمراكز البحثية والمراكز المتخصصة بالدراسات الاستشراقية التي تُرفد صانع القرار بكل ما هو مهم لاتخاذ القرار اللازم في المشاريع التي يجب ان تتبناها الدولة لكي تصل الى أهدافها عبر فترات زمنية طويلة، وهذا الكلام ينطبق تحديدًا على الدول المتقدمة والمتطورة تكنولوجيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، كالولايات المتحدة (وإسرائيل) وفرنسا والصين واليابان وغيرها من الدول المتقدمة التي تعتمد كثيرًا على مراكز البحوث المتخصصة في الدراسات المستقبلية، ومن أبرز الإسهامات المنهجية التي قدمتها المدرسة الأمريكية في مجال البحوث المستقبلية أسلوب “دلفي Delphi Method” الذي يمثل رؤية عصرية للدّور الذي كان يقوم به كهنة معبد دلفي في الحضارة اليونانية القديمة بالنسبة للتكهن بالمستقبل، وقد أصبح هذا الأسلوب لصيقًا بالدراسات المستقبلية، وخصوصا أن استحداثاته المتنوعة فى إطار هذه الدراسات قد أعطى عائدًا خصبًا فى مجال التنبؤات التكنولوجية والاجتماعية.

 

سادسًا: الدراسات المستقبلية: ما بين الضرورة المُلحّة والترف الفكري

 

بعد أن كانت الدراسات المستقبلية في بداية ظهورها بصورتها العلمية والأكاديمية ليست بذات أهمية كبيرة ولا يُعوّل عليها كثيرًا، خصوصا أن هذا النوع من الدراسات لم يلقَ القبول والاهتمام الواسع من قبل بعض المختصين؛ لاعتبارهم أن مثل هكذا نوع من الدراسات يُعدُّ مضيعةً للوقت ولا يجدي نفعًا، ولكن بعدما تطوَّرت المجتمعات وتطوَّر معها حاجات هذه المجتمعات ووصول التكنولوجيا إلى جميع أنحاء العالم، ولم يُعد هذا التطور محصورًا على فئة معينة من دول العالم بعد تقليص الفجوة وانكماشها ما بين عالم الشمال المتطور وعالم الجنوب النامي والذي هو بأمسّ الحاجة للدراسات المستقبلية لكي يتمكّن من اللحاق بالعالم المتطور.

 

إن الدراسات المستقبليّة باتت من الأولويات المهمة والتي تُعوّل عليها الشّعوب والدول المتقدمة كافة، بمعنى أنها صارت ضرورة ملحّة من ضرورات التقدم والتطوّر والنهوض، والتي لا يمكن الاستغناء عنها إذا ما أرادت دولة مّا أن ترسم وتختطّ لنفسها مسارًا نحو تحقيق الحياة الأمثل لمجتمعها، حيث لم تعد الدراسات المستقبلية مجالاً من مجالات الترف الفكري أو الرفاهية الثقافية أو التسلية الذهنية في الدول المتقدمة وحدها، بل إنها انتقلت إلى الدول كافة على اختلاف حظوظها من التقدم أو التخلف، ومن الغنى أو الفقر، كما أنها وإن كانت تستلزم بالضرورة قدرًا من الإبداع و الخيال والقدرة الذاتية على التصور المسبق لما هو غير موجود أو غير معروف الآن من خلال ممازجة هذه القدرات الفطرية التي يمتلكها البعض، والتي يكتسبها البعض الاخر مع العلم والتكنولوجيا والحداثة لكي تساعد على تشكيل مجتمع عصري منظم، فما يطلق عليه اليوم “الدراسات المستقبلية” إنما يتمثّل على العموم فى دراسات جادّة تقوم على مناهج بحث وأدوات درس وفحص مقننة أو شبه مقننة، وتحظى بقدر عالٍ من الاحترام في الأوساط العلميّة، وتنهض بها معاهد ومراكز بحثية وجمعيات علمية ذات سمعة راقية. ومثل هذا التصور هو ما يجب أن يتم الانتباه إليه، لا سيما من زاوية التعامل معه بدقة منهجية وانفتاح عقلي ورؤية سليمة لا تتعارض والثوابت، وفي الوقت نفسه لا تهمل المستجدات التي يشهدها العالم وما تحتاجه هذه العملية من إدامة مستمرة وتغذية عكسية للمعلومات والتي تضفي عليها الطابع العلمي والتجريدي.

 

الهوامش:

(*) منى وليد، الدراسات المستقبلية بحثا عن آفاق مغايرة، نقلا عن: http://www.misrelmahrosa.gov.eg/NewsD.aspx?id=923

 

(**) وليد عبد الحي، مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، المركز العلمي للدراسات السياسية، عمان2002.ص62-64.

 

(***) فاروق عبده، الزكي فلية، أحمد عبد الفتاح، الدراسات المستقبلية: منظور تربوي، عمان دار المسيرة، 2003، ص67.

 

التدقيق اللغويّ لهذه المقالة: أفنان الصالح

 

المصدر

2 1 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments