الذكاء الاصطناعي ومستقبل السياسة | د. خالد ميار الإدريسي
هناك نقاشٌ كبيرٌ في مختلف المنابر الإعلامية والمراكز البحثية والجامعات والمنتديات حول الذكاء الاصطناعي وتداعياته المحتملة؛ ومن ضمن القضايا الشائكة والمرتبطة بتطوره، هي قضية مستقبل السياسة في عصر هذا الذكاء الذي يراد منه، مضاهاة قدرة الانسان.
ترى أودري أزولاي، المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) أنّ “الذكاء الاصطناعي يمثّل الحدود الجديدة للإنسانية، بمجرد عبور هذه الحدود يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى شكل جديد من الحضارة الإنسانية.
المبدأ التوجيهي للذكاء الاصطناعي ليس أن يُصبح مستقبلًا أو أن يحل محل الذكاء البشري. ولكن يجب علينا أن نتأكد من أنّ تطويره من خلال نهج إنساني قائم على القيم وحقوق الإنسان. نحن نواجه سؤالًا حاسمًا: ما نوع المجتمع الذي نريده؟ تفتح ثورة الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة ومثيرة، لكن الاضطراب الأنثروبولوجي والاجتماعي الذي يجلبه في أعقابه يتطلب دراسة متأنية” (حسب موقع الأمم المتحدة).
الذكاء الاصطناعي أصبح لاعبًا دوليًا وأداةً في القوة الحادة في العلاقات الدولية
وبالفعل، فإنّ التحولات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي، تحتاج إلى جهد فكري وتخطيط مستقبلي، لتفادي الآفات المرتبطة بتطوره. ولا شك أنّ الممارسة السياسة، هي من المجالات التي ستستفيد من الذكاء الاصطناعي، ولكن كذلك يمكن أن تواجه تحديات كبيرة، بسبب التوظيف غير الأخلاقي لتقنيات الذكاء الاصطناعي وخصوصًا التوليدي.
هناك فئة من الخبراء تعتقد بأنّ الذكاء الاصطناعي قادر على خدمة السياسة، بحيث يمكن عبره تجاوز مشكلة التحيّز البشري في اتخاذ القرارات السياسية؛ ذلك أنّ الخوارزميات توفر تحليلًا “موضوعيًا”، لكَم هائل من البيانات المتوفرة والمتفرقة في مصادر متعددة. وهذا من شأنه دعم القرار السياسي، بكفاءة تحليلية ورصد للتحولات السريعة في العالم.
كما يمكن للذكاء الاصطناعي، تقديم مسح شامل للرأي العام، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها، والكشف عن ميول الناخبين وتطلعاتهم وهواجسهم، وهذا من شأنه أن يمكّن رجال السياسة من إدارة حملاتهم الانتخابية وهم على علم بالمطالب الحقيقية للشريحة المستهدفة. كما يمكن ان يكون الذكاء الاصطناعي “مستشارًا” سياسيًا، من حيث تقديم المشورة في قضايا معقدة والتي تتطلب تحليلًا دقيقًا للمعطيات. ويعتقد الخبراء أنّ الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يساعد في تصميم حوكمة جيدة، في مجال سياسات تدبير الكوارث، حيث يوفر الذكاء الاصطناعي أدوات لتجميع المؤشرات وتوقع التداعيات واقتراح الحلول البديلة السريعة، وخصوصًا في أوقات الكوارث الطبيعية أو الأوبئة.
لقد نشر برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومركز الدراسات الدولي “الإبحار في آفاق جديدة: تقرير استشرافي عالمي حول صحة الكوكب ورفاهية الانسان”، في يوليو/ تموز 2024. ويتوخى هذا التقرير المساهمة في “مسار الاستبصار” التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، والإشارة إلى دور الذكاء الاصطناعي كذلك، في تسهيل عمليات التوقع، وترسيخ ثقافة الترقب.
ويُنبّه الخبراء الذين قاموا بصياغة ّ “دليل لصانعي السياسات: تقييم التقنيات سريعة التطور بما في ذلك الذكاء الاصطناعي ونماذج اللغات الكبيرة وما بعدها”، الصادر عن المركز الدولي للعلوم، إلى الفرص والمخاطر المرتبطة بتطبيق الذكاء الاصطناعي في السياسات؛ حيث يقول بيتر جلوكمان، رئيس المركز: “في عصر يتسم بالابتكار التكنولوجي السريع والتحديات العالمية المعقدة، فإنّ إطار مركز الدراسات الدولي للتحليل الشامل والمتعدد الأبعاد للتأثيرات المحتملة يمكّن القادة من اتخاذ قرارات مستنيرة ومسؤولة، فهو يضمن أنّنا مع تقدمنا التكنولوجي، نفعل ذلك مع دراسة متأنية للآثار الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية”.
لا شك أنّ الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يساهم كذلك في تحسين إجراءات الوصول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما أكدت مديرة اليونسكو؛ لكن ذلك يتطلب تحلي صانعي السياسات بالمسؤولية وتبني نهج يتوافق مع مصالح البشرية. لأنّ الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يزج العالم في صراع حقيقي وحاد، من أجل امتلاك قوة الذكاء الاصطناعي، وهذا سيؤثر حتمًا على مسار السياسات العالمية والتفاعلات الجيوسياسية.
وقد أشار هنري كيسنجر في كتاب “عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل الانسان“ الذي حرّره مع إريك شميدت المدير التنفيذي السابق لغوغل، ودنييل ب. هوتنلوتكر؛ إلى كون الذكاء الاصطناعي قد أصبح لاعبًا دوليًا وأداةً في القوة الحادة في العلاقات الدولية.
هناك حاجة إلى وضع ميثاق أخلاقي عالمي يراعي وقاية الأجيال من آفات الاستعمال الجيوسياسي للذكاء الاصطناعي
ولذا، فإنّ فئة أخرى من الخبراء، تحذر من تأثير الذكاء الاصطناعي على الديمقراطية، والتلاعب بالرأي العام والناخبين، وخصوصًا في عصر “ما بعد الحقيقة” (Post Truth)، والذي يشكل فيه التضليل الإعلامي تهديدًا حقيقيًا، للسلم المحلي والعالمي. ذلك أنّ التلاعب بالحقائق ونشر المحتويات المضللة والكاذبة وقصف العقول بالأخبار الكاذبة، والطموح إلى تشكيل ذهنيات الجيل الحالي والأجيال القادمة، يمكن أن يؤدي إلى ترسيخ ثقافة العنف الفائق محليًا ودوليًا.
وفي العصر الجديد، الذي تتداخل فيه السياسات الداخلية مع السياسات الخارجية، هناك حاجة إلى مساهمة الجميع، في وضع ميثاق أخلاقي عالمي يراعي مصلحة كافة الشعوب، ووقاية الأجيال الحاضرة والمستقبلية من آفات الاستعمال الجيوسياسي للذكاء الاصطناعي وكافة التقنيات الجديدة.
د. خالد ميار الإدريسي: رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية