السيناريوهات المستقبلية

السيناريوهات المستقبلية

2024-09-21 8:47 ص

السيناريوهات المستقبلية

 

استقر العلماء على تعريف علم المستقبليات futurology بأنه العلم الذي يختص بدراسة الاحتمالات ورصد الممكن وتقليص الاحتمالات التي تشير إلى (اللايقين) uncertainty والهدف الرئيس لهذا العلم أصبح وضع تصور مستقبلي لحركة تاريخ دولة من الدول، وربما لحركة تاريخ العالم لعدة عقود، باستخدام المنهج العلمي، وذلك بوضع سيناريو أو أكثر للمستقبل بما في ذلك وضع سيناريوهات لمواجهة الأزمات الطارئة والقوى المضادة لحركة التاريخ.

 

ويترتب على نجاح استشراف المستقبل تحديد الإمكانيات والقدرات اللازمة للحفاظ على مسار تاريخي مستقبلي صاعد، كذلك تحديد الآليات والوسائل اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة.

 

ولقد استقر رأي العلماء أيضاً على تعريف (السيناريو) أو (السيناريوهات المستقبلية) بأنها فرع من فروع علم المستقبل يستهدف رصد الأحداث المحتمل وقوعها في المستقبل القريب والبعيد، وكذلك رصد وتحديد الأزمات والقوى المضادة، ووضع تصور مستقبلي لحركة التاريخ أو إن شئنا الدقة لحركة التاريخ المحتملة صعوداً أو تراجعاً وإمكانية مواجهة عوامل التراجع والنكوص.

 

وبالجملة فإن سيناريوهات المستقبل تشتمل على رصد مستقبلي مفصل للمسار أو السياق الذي يجب أن تختاره وتسير فيه حركة التاريخ.

 

وبديهي أن وضع السيناريو أو السيناريوهات تم صياغته على يد فريق من العلماء متنوعي التخصصات، وفي مقدمتهم مؤرخون، وإن كان لابد من التنويه إلى أن النظرة الفلسفية للتاريخ ستؤثر حتماً على الدراسات المستقبلية فرؤية باحث لحركة التاريخ على أنها تنطلق في خط صاعد أو هابط أو في حركة دائرية، ستفرض نفسها على رؤيته لحركة المستقبل.

 

ولمزيد من التوضيح فتصور باحث لدور الإنسان كصانع للعملية التاريخية على أنه دور سلبي لا قيمة له، سيؤدي ذلك إلى نفي السيناريو المستقبلي تماماً وانتظار المستقبل كما سيقع دون تدخل الإنسان، بينما لو انطلق باحث آخر من أن الإنسان صانع التاريخ وله دور إيجابي ومؤثر في صناعة التاريخ وصوغ المستقبل، فسيكون الوضع مختلفاً تماماً، حيث سيساعد هذا الموقف على التخطيط ووضع الأهداف والعمل على إدارة المستقبل، ووضع تصور تاريخي مثالي وتنمية مستدامة وحياة ملائمة.

 

على كل حال، يكاد ينعقد الإجماع على دور التاريخ في صياغة سيناريوهات المستقبل. يقول المفكر الفرنسي فولتير: (التاريخ هو روضة الأمم وكل أمة تحصد ما غرسته هذه الروضة لبناء مستقبلها، أي أن حصاد الآمال المستقبلية وثيق الصلة بالبذور التي نثرت في روضة التاريخ).

 

ويقول أحد الأدباء وهو يصف التاريخ إنه المستقبل الذي تمتد جذوره من الماضي.

 

والحقيقة أنه لا يجوز النظر إلى التاريخ على أنه الوقائع والأحداث التي وقعت في الماضي فقط، فالمستقبل يصنع في الماضي، والحاضر همزة الوصل بينهما.

 

ولعل ما سبق يفند مقولة إن قراءة التاريخ ودراسته لا تغني ولا تسمن من جوع، ومقولة إن التاريخ تصنعه المصادفة. واستشراف المستقبل انطلاقاً من دراسة ما وصلت إلينا من تاريخ الأحداث يشبه عمل الأرصاد الجوية، فعندما يبدأ المرصد بحالة الطقس خلال أسبوع أو عدة أسابيع، يكون قد درس التقارير التي تراكمت حول طبيعة الطقس في الأسابيع والشهور السابقة.

 

ومن هنا تأتي أهمية دراسة التاريخ بهدف استشراف المستقبل، وهي عملية تعتمد على أسس علمية، وليست من قبيل ضرب الودع أو قراءة الفنجان أو عمل السحر والشعوذة.

 

إن استشراف المستقبل من خلال قراءة نتائج الحركة التاريخية عبر آلاف السنين هو فن وعلم يهدف إلى التعرف على ملامح حركة التاريخ في المستقبل والتعرف على الإمكانات والتحولات لتحقيق أهداف محددة سلفاً في مجال العلوم الطبيعية. حدثت طفرات لرسم تصور لطبيعة المستقبل البشري خلال العقود القادمة، فقد خطط العلماء للزراعة بدون تربة وللزراعة العمودية فلن تعتمد هذه الأساليب على التربة بل ستعتمد على المياه والمحاليل المعدنية المغذية كما خطط العلماء لزراعة الرقائق التكنولوجية تحت الجلد، وفي نفس الوقت قفزت الدراسات الخاصة بالذكاء الاصطناعي والدراسات التي اهتمت بالتغييرات التي ستطرأ على مناخ الكرة الأرضية 2050.

 

لقد فرضت هذه التحولات المهمة تحديات هائلة على علماء استشراف المستقبل وعلى المؤرخين وطرحت أسئلة وتحديات كثيرة في مواجهة البحث العلمي، لعل أهمهما على الإطلاق: كيف ستكون طبيعة التاريخ وشكل الحركة التاريخية في المستقبل؟ وهل هناك إمكانية للتحكم في حركة التاريخ؟ وهل من الممكن حماية الدولة من التآكل والانهيار؟

 

واللافت للنظر أن المؤرخين سيتحملون نصيباً كبيراً في الإجابة على هذه التساؤلات وسيكون منوطاً بهم تحديد أهداف الدولة التي ينتمون لها ومعرفة طبيعة النظام العالمي، كيف ولد وإلى أين يتجه؟ وسيكون عليهم انتقاء الأفكار والمؤثرات التي تحدد وتضبط حركة المجتمع صعوداً إلى الأمام وبهذا الصدد ستندثر الدول التي تعجز عن تحقيق التنسيق بين صانع القرارات والنخبة التي تدور في فلكه حيث يحتكر هؤلاء التخطيط للمستقبل وبين أهداف المجتمع التي بلورها العلماء والمؤرخون.

 

سيعكف العلماء على اختبار الاختراعات وسيقدم المؤرخون شرحاً وتحليلاً للواقع الحاضر بعد دراسة العوامل التي أثرت في تشكيله، وذلك بالغوص في أعماق التاريخ، والوعي بالتفاعلات التي تمت عبر الزمن لتحفز مجرى الحركة التاريخية وتحدد معالم السياق التاريخي بهذا الصدد وسيتم تحديد الثابت والمتغير والعوامل المهمة والأهم والأقل تأثيراً في صوغ المستقبل.

 

د. جمال شقرة

المجلة العربية

رقم العدد: 525

 

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments