المشهد الدولي وصراعات الاتجاهات الأعظم | أ. د. وليد عبد الحي

المشهد الدولي وصراعات الاتجاهات الأعظم | أ. د. وليد عبد الحي

2023-02-25 10:28 م

المشهد الدولي وصراعات الاتجاهات الأعظم | أ. د. وليد عبد الحي

 

من بين مشكلات الدراسات المستقبلية في جانبها المنهجي هو تحديد ما يسمى المحرك أو السائق (Driver)، أي المتغير الذي يؤثر في بقية المتغيرات أكثر من غيره، ويتم تحديد هذا المتغير من خلال ما يسمى مصفوفة التأثير المتبادل (Cross Impact Matrix)، ويبدو لي أن اغلب الباحثين في هذا الميدان يميلون في نتائج مصفوفاتهم (وقد أكون من أكثرهم ميلا) لاعتبار التكنولوجيا هي هذا المحرك، مع ضرورة تحديد مفهوم التكنولوجيا، فهي تعني “تطور آلات الإنتاج وأنماطه ومناهج التفكير وفلسفة المعرفة ومفاهيمها اللغوية”، فهل يمكن الفصل مثلا بين تطور مناهج البحث وبين تطور التكنولوجيا، وبالمقابل كيف يمكن الفصل بين التكنولوجيا وبين تناقص معدلات الإنجاب بعد الإثبات الاحصائي بأن هناك علاقة ارتباط وثيقة بين مستوى التعليم وبين تناقص عدد أفراد الأسرة الواحدة؟ وهكذا كلما انتهجت التنبؤ العكسي (Back cast) أو انتهجت طرائق الإسقاط (Projection) والانحدار (Regression) تجد أن التكنولوجيا بمفهومها الكلاني (Holistic) تُطل من أبواب الظاهرة أو نوافذها أو تتوارى خلف الجدران.

 

فإذا انغمسنا في عدد من الاتجاهات الأعظم (Mega-trends) في الحياة الدولية بتفاعلاتها وقطاعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتقنية والفلسفية، سنجد الكلانية شاخصة في إثبات أن تفاعلات هذه القطاعات تنتج معطيات ليست في أي منها (كالماء فيه خواص ليست في مكوناته المنفردة) فالكل أكبر من مجموع الأجزاء، وهنا تبدو مشكلة المنهج التجزيئي (Reductionism) في رسم صورة البنية الدولية استنادا لكل قطاع على حدة دون التنبه للتأثير المتبادل بين القطاعات وتباين تسارعها من قطاع لآخر ومن دولة لأخرى ومن إقليم لآخر.

 

ما هي الاتجاهات الأعظم الأكثر تداولا في الدراسات المستقبلية لرسم صورة المستقبل حتى عام 2030؟

 

أولاً: تسارع التطور التكنولوجي تسارعا خطيا كما يرسمه المنحني السوقي وتباين الفرق بين الدول والمجتمعات والأفراد من حيث القدرة على التكيف مع هذا التسارع، مما يفتح المجال للاضطراب وتحديد مستوياته طبقا لمستوى القدرة على التكيف.

 

ثانياً: التحول في أسواق الإنتاج والعمالة مما نتج عنه تزايد شرائح البطالة وتزايد سوء توزيع الدخل بين الأمم وداخلها، وتكاد أن تكون هذه ظاهرة شبه عامة، ولكنها مرتبطة بالتكنولوجيا التي تغير من أنماط الإنتاج وأدواته مما يحيل فئات عاملة من المركز إلى الهامش الصناعي أو حتى خارج الهامش، ورغم ارتفاع اجمالي الناتج المحلي العالمي من 50 تريليون دولار عام 2000 إلى 75 تريليون عام 2016 إلى 96 تريليون مع بدايات 2023، فإن مؤشر غيني (Gini index) يشير إلى فروق واسعة في نصيب الشرائح الكبرى من السكان من الثروة وهو ما يعزز الاضطراب.

 

ثالثاً: تغيرات المناخ نتيجة تسارع التصنيع والتكدس الحضري (12% من سكان العالم حاليا (أي حوالي مليار نسمة) يعيشون في مدن يفوق سكان الواحدة منها 10 ملايين نسمة) ونتيجة التغير في أنماط الحياة، مع ميل إلى ارتفاع استهلاك الطاقة بمعدل 1.7% سنويا حتى عام 2030، ناهيك عن تأثيرات التجارب النووية ومختبرات التجارب البيولوجية العسكرية والمدنية ونهب باطن الأرض بحثا عن النفط والمعادن المختلفة، مما يغير من تركيبة الصفائح الجيولوجية ويفتح المجال أمام الزلازل والأعاصير وغيرها من الكوارث الطبيعية.

 

رابعاً: تزايد الترابط التقني والاقتصادي وتنامي التفسخ الاجتماعي وخلخلة مركزيات النظام الدولي: ويكفي إعطاء مؤشرات على ذلك:

 

١- سيكون ٧٥% من سكان العالم مرتبطين بالإنترنت في بيوتهم أو سياراتهم أو أجسادهم حتى عام 2030، وسيكون هناك 125 مليار جهاز مرتبطة جميعها بالإنترنت مقارنة ب 27 مليار عام 2017، وسيرتفع عدد المسافرين بين الدول من حوالي 4 مليار عام 2017 إلى أكثر من 11.5 مليار عام 2036 بكل ما لذلك من تداعيات ثقافية واجتماعية واقتصادية بل وبيئية.

 

2- تزايد التفسخ في البنيات الاجتماعية: فلو حسبنا مساهمة العمليات الإرهابية التي تقف خلفها حركات سياسية انفصالية سنجد أنها تشكل 67% من العمليات، مقابل 16% لما يسمى تنظيمات جهادية و 12% لحركات يسارية و 5% لحركات يمينية فاشية، وكلها تشير إلى تفسخ اجتماعي قسري.

 

3- حجم الترابط التجاري: فخلال الفترة بين 2000 و 2020 تضاعف التبادل التجاري بين دول العالم 3 مرات، لكن عدد القيود التي تفرضها الدول على تدفق السلع والخدمات لنفس الفترة زاد بحوالي ستة أضعاف أو ما سماه البعض ظاهرة التباطؤ (slowbalization). في مواجهة العولمة، ولكن هذا التباطؤ لا ينفي التزايد، بل يحدد سرعته.

 

4- النزوح التدريجي للاقتصاد العالمي من الغرب إلى آسيا، فلو قارنا بين القوى الكبرى سنجد الآتي:

 

أ‌- تراجع نصيب الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي من 27.5% (عام 2000) إلى 22.6% (عام 2015) إلى 20.2 (عام 2030) (استنادا لإسقاط الاتجاه الأعظم على السنوات السبع الباقية)

ب‌- أما أوروبا الغربية فتراجعت لنفس السنوات من 20.9% إلى 14.9% إلى 12.2%

ت‌- بالمقابل ارتفع نصيب الصين (نفس الفترة) من 8% إلى 19.6% إلى 23.7%

ث‌- أما اليابان من 4.4% إلى 6.1% إلى 8.8%،

ج‌- فإذا أضفنا الهند من 4.2% إلى 6.9% إلى 10%

ح‌- أما روسيا فانتقلت من 3.4% إلى 3.8% إلى 3.6%…

 

ذلك يعني أنه في عام 2030 سيكون نصيب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية (المركز الصناعي التقليدي) 32.4% مقابل 46.1% للقوى الآسيوية المركزية الصاعدة، فإذا أضفنا إلى ذلك حجم الدين العام (دون الخاص) نجد أن معدلة لأوروبا والولايات المتحدة واليابان يصل إلى 119.5% بينما في الصين 71.5%، وفي الدول النامية 48.7% (حوالي 124 دولة نامية).

 

مؤشرات أولية على المستقبل:

 

من العسير في المستقبل أن تتمكن دولة بمفردها من مواجهة التحديات العالمية الكبرى. نتيجة لذلك، ستعتمد أهمية الدولة على قدرتها على نشر مجموعة متنوعة من الآليات للتأثير على القرارات السياسية للدول الأخرى، بدلاً من مجرد القدرات الأولية التي تمتلكها تحت تصرفها. المحددات الرئيسية لذلك ستكون هي عدد ونوعية العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. وسيتم تحديد النفوذ من خلال التجارة وتدفقات المعونة وليس القوة الاقتصادية في حد ذاتها، ومن خلال نقل الأسلحة والتكنولوجيا بدلاً من حجم الإنفاق العسكري. وعلى نفس المنوال، فإن عضوية المنظمات والتحالفات الدولية ستشكل رأسمالاً، كما ستزداد القوة الناعمة والقدرة على إلهام الآخرين من خلال تطوير تكنولوجيا التلاعب بالبنيات السيكولوجية للأفراد وتوجيهها باتجاهات يتوهم أصحابها أنها من بنات أفكارهم.

 

من جانب آخر، هناك موضوع العنف والحروب، فعلى الرغم من تراجع عدد الحروب “بين الدول” إلا أن المعطيات تشير إلى حرب واحدة على الأقل كل عشر سنوات بين القوى الكبرى برا أو بحرا أو جوا أو حربا سيبرانية، أما الحروب الاهلية فإما أن تبقى بمعدلها الحالي أو أنها ترتفع لتصل إلى 40 حربا أهلية في العام، أي أن نسبة الدول التي ستشهد حروبا أهلية ستكون عام 2030 حوالي 12% من دول العالم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن هناك الآن 50 دولة هشة يقطنها 1.4 مليار نسمة، سيرتفع عدد سكانها عام 2030 إلى 1.9 مليار و2.6 مليار عام 2050، وسيكون أغلب هذه الدول في إفريقيا جنوب الصحراء، فإننا نستطيع تحديد المناطق الملتهبة القادمة، وإذا كانت العناية الأمريكية ستتركز على حوض الهادئ بشكل رئيسي، فإن تركيز أوروبا مستقبلا سيكون على نقطتين هما شرق أوروبا والشرق الاوسط، بينما سيبقى ما يسمى الجوار القريب هو الشغل الشاغل لروسيا.

 

فإذا كانت التكنولوجيا بمعناها الواسع هي المحرك أو السائق نحو تحديد شكل المستقبل لكل إقليم جيو سياسي أو جيو استراتيجي، فيمكن لنا تخيل موقع المنطقة العربية مستقبلا لمجرد معرفة أنها المنطقة التي تعد واحدة من أقل مناطق العالم إنفاقا على البحث العلمي وبخاصة في المجال التكنولوجي… وبدون ربما.

 

 

أ. د. وليد عبد الحي*

* أ. د. وليد عبد الحي أستاذ في قسم العلوم السياسية وباحث في المستقبليات والاستشراف.

 

19-02-2023

 

المصدر

 

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments