المنحنى السوقي في الدراسات المستقبلية | أ. د. وليد عبد الحي

المنحنى السوقي في الدراسات المستقبلية | أ. د. وليد عبد الحي

2024-11-04 8:19 ص
المنحنى السوقي في الدراسات المستقبلية | أ. د. وليد عبد الحي*

 

إذا اعتبرنا أن التطور التكنولوجي من ناحية وتسارع إيقاعه من ناحية ثانية ثم انعكاسه على البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبناء سيناريوهات المستقبل على أساس هذه الأبعاد، نكون أمام منهجية توظيف المنحنى السوقي (Logistic Curve) في الدراسات المستقبلية.

 

ويستدعي استخدام المنحنيات السوقية فهم معادلة انتشار التطور (Spill over) ثم قياس معدل التسارع في كل قطاع من قطاعات الحياة، ثم تحديد أفق التطور التقني، وهنا نجد سلسلة من محاولات وضع قوانين لهذه المسالة بدءاً من (Daniel Burnham) ثم قوانين (Moore) وصولا لقوانين (Kurzweil) إلى جانب جهود فكرية أخرى وصولا إلى مخاطر ما سمي التفرد التكنولوجي (technological singularity) القائم على أساس أن التطور التقني سيصل مرحلة عدم القدرة على “ضبط إيقاعه” وهنا يبدأ التحول الأكبر في التاريخ البشري.

 

ويميز باحثو الدراسات المستقبلية بين مراحل ثلاث للقياس وهي الابتكار (Invention) ثم تحويل الابتكار إلى سلعة أو منتج (Innovation) ثم تطوير المنتج وتحسينه (Evolution) (أو القدرة على الربط بين عدد من الابتكارات في ميادين مختلفة للوصول لإنتاج جديد، وهنا تبدأ الخلافات بين نماذج القياس، فهل نبدأ من المرحلة الاولى أم الثانية أو الثالثة وهي المراحل التي تتبدى في المنحنى السوقي الذي يأخذ شكل حرف (S)، حيث يمثل المقطع الأعلى من الحرف S نقطة الابتكار ثم نقطة التحويل والانتشار ثم بداية ظهور ابتكارات جديدة تصل بهذا المنحنى لمرحلة التراجع (مثل ابتكار جهاز الموريس ثم التلفون بكابل يحمل مكالمة واحدة ثم كابل يحمل ملايين المكالمات ثم الوصول للخلوي أو الموبايل).

 

وهنا لا بد من الأخذ في الاعتبار أن الابتكار يمر بمرحلة ظهور، ثم إثبات علمي لصحته وقابليته للتحول للإنتاج ثم الإنتاج ثم الانتشار ثم ظهور المنتج الجديد المنافس ومدة سيطرته على السوق (مثل الموبايل والتلفون الأرضي، أو التلفزيون الأبيض والأسود ثم الملون ثم ظهور الأطباق المنفردة لمساحة صغيرة ثم الأطباق المرتبطة بالأقمار المتعددة ثم المرتبطة بالإنترنت…إلخ).

 

وهنا لا بد من مراعاة العلاقة بين المنظومة المعرفية والبيئة المعرفية وبين الابتكار، وسأعطي مثالين للتوضيح:

 

1- عندما طرح العلماء من أمريكيين وسوفييت في الثمانينات من القرن الماضي فكرة إلغاء الليل والنهار والتحكم بهما، كانت نتيجة النقاش إجماع العلماء من الدولتين على الصحة العلمية للفكرة، لكن التكلفة المالية الهائلة لتعليق المرايا في الفضاء تبين أنها عالية بشكل غير محتمل، وهنا توقفوا عن الإنجاز على أمل العثور على بديل.. ذلك يعني أن البيئة العامة (القدرة الاقتصادية) حالت دون الانتقال من الابتكار إلى التطبيق (بالمعنى الذي أشرنا له).

 

2- عند طرح فكرة وقف الموت من أحد العلماء برزت المنظومات المعرفية المستندة للميتافيزيقيات المختلفة تساندها المنظومة المعرفية القائمة حاليا لدى نسبة غير قليلة من المجمع العلمي العالمي “للسخرية” من الموضوع، وهنا أصبحت المصادرة على المطلوب طاغية، مع أن العلم لم يثبت أن الفكرة غير ممكنة نهائيا في المستقبل، مثل استهجان فكرة ”الروبوت” أو الإنسان الآلي، الآن يجري البحث في تزويده بعقل ومشاعر، فهل سيصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي لاحقاً ونبدأ البحث في حقوق الإنسان الآلي؟

 

ما يجب التنبه له أن الدراسات المستقبلية تحاول (ونجحت في جوانب عديدة) وضع معادلات رياضية لقياس وتحديد نوعية وموعد وقوع التطور التقني القادم وتحديد آثاره، وأعتقد أن المتغير الأكثر فاعلية في تحديد المسار البشري هو التطور المعرفي (بمعناه الواسع الذي طرحه توفلر لا بالمعنى الضيق المتداول)، وأن أي دراسة مستقبلية (لا الخواطر والحدس المستقبلي بمدلوله السيكولوجي التقليدي) تكون أقرب للدقة بمقدار معرفتها بالقوانين الرياضية وتحديداً للمنحنى السوقي وتفاعله المتبادل مع المتغيرات التقليدية الأخرى، وعدم الخلط بين المعلومات (Information) وبين المعرفة (Knowledge)، ويتم ذلك بقياس الثانية من خلال:

 

  1.  حجم الأدبيات المتعلقة بالموضوع.
  2.  تحليل اتجاهات براءات الاختراع.
  3.  قياس التأثير التكنولوجي عبر مراحله الثلاثة (التي أشرنا لها في المنحنى السوقي طبقاً للمعادلة المعروفة للباحثين في هذا المجال).
  4.  قياس درجة تأثير المعرفة في التعليم (مثلاً المنظومات التربوية التي تطرح موضوع التغير أكثر سرعة في إنجاز المعرفة من المجتمعات التي تقع في مرتبة أقل في تناول التغير، وهناك علاقة ارتباط واضحة حسب عدد من الدراسات المتخصصة بين البعدين).
  5.  التنقيب المعلوماتي (Data Mining).

 

وفي كل من هذه الجوانب قواعد وأصول للقياس وبناء النماذج التحليلية لدمجها في الدراسة المستقبلية.

 

 

 

*خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.

 

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments