تفكيك المشهد الاستراتيجي بين الدولي والإقليمي: الشرق الأوسط نموذجاً | أ. د. وليد عبد الحي

تفكيك المشهد الاستراتيجي بين الدولي والإقليمي: الشرق الأوسط نموذجاً | أ. د. وليد عبد الحي

2024-08-16 7:29 ص

تفكيك المشهد الاستراتيجي بين الدولي والإقليمي: الشرق الأوسط نموذجاً | أ. د. وليد عبد الحي

 

يُسلم أغلب علماء العلاقات الدولية بأن نموذج “كرة البلياردو” يتراجع وبشكل لا لُبس فيه أمام نموذج “شبكة العنكبوت”، أي أن العالم يشهد تحولاً من النمط التاريخي القائم على محدودية تأثير الوحدات الدولية على بعضها (كرة البلياردو) إلى العجز عن ضبط التأثير المتداخل بين الوحدات على بعضها (نموذج شبكة العنكبوت)، بل إن تعيين حدود ما هو داخلي وما هو خارجي أصبح أمراً في غاية التعقيد من ناحية، كما أن مساحة المصالح المشتركة جعلت النموذج الصفري في تحليل العلاقات الدولية يتوارى لصالح المنظور غير الصفري حيث المصالح المشتركة بين الأعداء تفوق أحياناً حجم المصالح المتناقضة من ناحية ثانية، ويكفي الإشارة إلى أن العدو الأول للولايات المتحدة هي الصين لكنها هي شريكها التجاري الأول، وتايوان عدوها الأول هو الصين لكن شريكها التجاري الأول هو الصين، وكوريا الجنوبية تعتبر الصين ضمن أهم خصومها لكن هذا الخصم هو شريكها التجاري الأول.. فكيف يمكن توصيف هذه العلاقة، وهو نموذج متكرر للكثير من الدول الأُخرى..

 

ولعل تنامي التنظيمات الإقليمية الحكومية وغير الحكومية التي تساهم في نسيج شبكة العلاقات الدولية (حوالي 54 ألف تنظيم غير حكومي وحوالي 300 تنظيم دولي وإقليمي) هو المؤشر على أننا نعيش مرحلة انتقالية تستدعي التخلي عن مناهج تحليل العلاقات التقليدية، ولعل السمة المركزية لذلك هي انضواء الدولة القومية في أطر إقليمية أو عابرة للحدود لضمان مصالحها مقابل بعض التنازل عن مبدأ السيادة كما كرسه جان بودان.

 

المشهد الشرق أوسطي:

دعونا نتوقف عند ثلاث وقائع تساهم في توضيح المشهد الشرق الأوسطي ببعده الاستراتيجي وبنموذج شبكة العنكبوت:

1- مؤتمر مجلس حلف الناتو في براغ عام 2003، وفي هذا المجلس طرح المندوب الأمريكي في مجلس الناتو وليم بيرنز المشروع التالي حرفياً: “إذا كانت مهمة الناتو هي الدفاع عن أوروبا وأمريكا الشمالية، فإننا نعتقد بان ذلك غير ممكن إذا بقينا في أوروبا الغربية، أو أوروبا الشرقية أو أمريكا الشمالية، علينا أن نتجه لنشر قواتنا العسكرية جنوباً وشرقاً، فمستقبل الناتو هو في الشرق والجنوب.. إنه في الشرق الأوسط الكبير”.

وهنا يأتي التساؤل: لماذا الشرق الأوسط الكبير (من المغرب إلى أطراف باكستان وآسيا الوسطى طبقاً للتعريف الأمريكي)؟ إنه لتشديد الحصار على روسيا (وهو ما ظهر في اتفاقية الشراكة من أجل السلام بين الناتو وكازخستان ثم إقامة قاعدة في قرغيزيا ثم محاولة ضم أذربيجان وجورجيا للحلف) والعمل على التسلل باتجاه الأقليات الروسية (أكثر من 20 مليون نسمة) ثم التواجد في قواعد في سوريا والعراق ناهيك عن التواجد في تركيا بفعل عضوية هذه الدولة في الناتو.

الدافع الثاني للتوسع شرقاً وجنوباً هو لتطويق إيران بقواعد في الخليج وفي أذربيجان وتركيا، وهو ما أدركته روسيا. وقد أدركت روسيا وإيران الأبعاد الاستراتيجية لهذا التوسع فبدأت تنسق خطواتها معاً، وهنا تشابكت المصالح الروسية والإيرانية ومصالح محور المقاومة، ولكل غايته التي لا يستطيع خدمتها منفرداً.

 

2- قرار القيادة الأمريكية في يناير 2021 بنقل إسرائيل من منطقة عمليات القيادة الأوروبية للقوات الأمريكية إلى منطقة عمليات القيادة المركزية (سينتكوم) التي يغطي عملها “الشرق الأوسط الكبير“، ومن الضروري التنبه إلى أن تشكيل القيادة المركزية كان قد أعلن بعد قيام الثورة الإيرانية والتدخل السوفييتي في أفغانستان، أي أن إنشاء هذه القيادة هو استكمال لقرارات براغ، وهو ما يعني تلاقي المصلحة الأمريكية الإسرائيلية لتحطيم إيران لأنها حليف لروسيا من منظور المصلحة الأمريكية ولأنها دعامة محور المقاومة من منظور إسرائيل طبقا لأولويات كل من أمريكا وإسرائيل في ترتيب المصالح. وما يعزز ما ذهبنا إليه هو قرار أمريكا عام 2004 (زمن الرئيس بوش) باعتبار سوريا ولبنان ضمن منطقة عمليات القيادة المركزية التي تم لاحقاً نقل إسرائيل لها.

 

3- استكمال اتفاقيات التطبيع العربي مع إسرائيل باتفاقات “أبرهام” من عام 2020، وبدء إجراء تدريبات عسكرية مشتركة وفتح أول مكاتب الاتصال للناتو في الأردن، وهو ما يعني استكمال بنية تحتية للناتو لتأدية وظائف ثلاث هي: تأسيس بنية تحتية للناتو لخنق ما يمكن اعتباره أقرب إلى التحالف الإيراني الروسي وحماية إسرائيل، وطي موضوع القضية الفلسطينية عبر تحويل العلاقات العربية من صفرية إلى غير صفرية.

 

الرد الروسي الإيراني:

لن أتوقف عند جبهة آسيا الوسطى لتفاصيلها الكبيرة، ولكني أشير إلى تمكن روسيا من لجم شراكة الناتو مع كازخستان، واضطرار قرغيزيا لإغلاق قاعدة مناس الأمريكية، وطي بعض طلبات القفقاس للانضمام للناتو، ثم جاء تدخلها العسكري في سوريا بحوالي أكثر من 60 ألف جندي تناوبوا على الأراضي السورية، بقي منهم حوالي 4 آلاف ينتشرون في عشرات الموقع في الجغرافيا الروسية.

 

لكن الضرورة تقتضي التنبه لطرف ثالث يزداد انغماسا في شؤون المنطقة وهو الطرف الصيني، فللصين علاقات تاريخية مع المنطقة لكن مشروع “الحزام والطريق” هو الأهم حالياً، ويبدو أن الولايات المتحدة لعبت دوراً في دفع الهند للشروع في مشروعها “الممر الاقتصادي الأوروبي الهندي” الذي يزاحم في أهدافة وطرقه ومحطاته المشروع الصيني، وهو ما يفتح المجال أمام عسكرة متبادلة للمشروعين قد يغرق الخليج فيما لا تحمد عقباه.

 

إذن أصبح المشهد الشرق أوسطي كالتالي:

1- ناتو يتسع باتجاه منطقتنا لكنه قد يواجه مشكلات قد تودي به بخاصة في التقاطع بين أولويات أوروبا وأولويات أمريكا، ولعل مواقف هنغاريا وتركيا تشي ببعض التشقق.

2- دأبٌ روسي لمنع استقرار الناتو تحت إبطها في الشرق الأوسط الكبير.

3- عسكرة صينية مستقبلية لمشروعها بدأ في جيبوتي وقد تسعى الهند للمسار ذاته مما سينعكس على الاستقرار السياسي والاجتماعي والعسكري في الخليج.

 

نموذج شبكة العنكبوت:

من الواضح أن الأطراف المتصارعة تسعى لبناء تكتلات تشكل سنداً لها من ناحية ومصداً للخصوم من ناحية ثانية، واكتفي بعرض بعض المشاهد:

أ‌- تلتقي كل من الهند والصين في منظمة البريكس ذات الطابع الاقتصادي وشنغهاي ذات الطابع الأمني، فهل هذه أطر لإدارة الصراع بين الدولتين من منظور غير صفري؟ أم هي أطر لتوظيف المنظمة لصالحها ضد العضو الآخر؟ تلك هي تعقيدات الحياة الدولية.

ب‌- كيف تناشد دولة كتركيا البريكس لقبولها عضواً في الوقت الذي هي عضو في الناتو؟ بل إنها أصبحت “شريك حوار” في منظمة شنغهاي مع أنها عضو في الناتو، فكيف ستدير علاقاتها بين الخصمين؟

ت‌- كيف ستوفق الصين علاقاتها المتصاعدة مع إسرائيل بينما تمثل إيران أحد أهم مزودي الصين بالطاقة؟

إن المشهد السابق يشير إلى أن ما يجري في غزة ليس منفصلاً عن شبكة العنكبوت التي أشرت لها، وليس صدفة أن أعلى أقاليم عدم الاستقرار في العالم هو في منطقتنا، ومن ينتظر استقرارا قريبا هو أقرب “للواهم”، وسيطال عدم الاستقرار الغني والفقير والقوى والضعيف والأصيل والطارئ…..ربما.

 

03-08-2024

 

أ. د. وليد عبد الحي*

* أ. د. وليد عبد الحي أستاذ في قسم العلوم السياسية وباحث في المستقبليات والاستشراف.

 

المصدر

 

قد يهمك أيضاً

 

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments