إيمانويل تود: تنبؤات بسقوط الغرب النهائي

إيمانويل تود: تنبؤات بسقوط الغرب النهائي

2024-07-23 2:08 م

إيمانويل تود: تنبؤات بسقوط الغرب النهائي

 

نشرت صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية، يوم الجمعة 12 يناير 2024، لقاءً مع المؤرخ وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود للحديث عن كتاباته الأخيرة التي تنبأ فيها بسقوط شامل للغرب، خاصة كتايه الأخير “السقوط النهائي للغرب”.

 

وانطلق تود في حواره من توضيح ملاحظته لهزيمة الغرب والتي قال إنها ترتكز على 3 عوامل: أولها النقص الصناعي في الولايات المتحدة مع الكشف عن الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي، والعامل الثاني يتمثل حسب تود في اختفاء البروتستانتية الأميركية، أما العامل الثالث وراء الهزيمة الغربية فهو تفضيل بقية العالم لروسيا.

 

وإيمانويل تود هو عالم أنثروبولوجيا ومؤرخ وباحث في المستقبليات. ألف كتبًا أصبح العديد منها من كلاسيكيات العلوم الاجتماعية، مثل “السقوط النهائي” الذي صدر عام 1976 وتنبأ فيه بالسقوط النهائي لـ “الاتحاد السوفيتي”، كما صدرت له كتب “الوهم الاقتصادي”، و”ما بعد الإمبراطورية”، و “الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل”، وآخر كتبه موضوع هذا الحوار هو “السقوط النهائي للغرب”.

 

فيما يلي ترجمة للحوار الذي أجرته معه “لو فيغارو”:

ينطلق هذا الكتاب، “السقوط النهائي للغرب”، من المقابلة التي أجريتها مع صحيفة لوفيغارو قبل عام فقط، بعنوان “لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة”. أنتم ترون الآن أن الغرب قد هُزم، ولكن الحرب لم تنته بعد.

 

الحرب لم تنته بعد، لكن الغرب خرج من وهم النصر الأوكراني المحتمل. لم يكن الأمر واضحاً للجميع عندما كتبت ما كتبته، ولكن اليوم، بعد فشل الهجوم المضاد هذا الصيف، وملاحظة عجز الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى عن توفير ما يكفي من الأسلحة لأوكرانيا، فإنّ البنتاغون سيتفق مع رأيي.

 

إن ملاحظتي لهزيمة الغرب ترتكز على ثلاثة عوامل. أولاً، العجز الصناعي في الولايات المتحدة، مع انكشاف الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. في كتابي، أقوم بتنفيس فقاعة هذا الناتج المحلي الإجمالي [بحذف الأقسام التضخمية منه] وأبين الأسباب الجذرية للانحدار الصناعي: عدم كفاية التدريب الهندسي، وبشكل أكثر عمومية، انحدار المستوى التعليمي منذ عام 1965 في الولايات المتحدة.

 

الأمر الأكثر عمقاً هو أن اختفاء البروتستانتية الأميركية يشكل العامل الثاني في سقوط الغرب. كتابي هو في الأساس تكملة لكتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فيبر. عشية حرب عام 1914، كان يعتقد بحق أن صعود الغرب كان في جوهره صعوداً للعالم البروتستانتي – إنجلترا، والولايات المتحدة، وألمانيا المتشكلة من توحد بروسيا والدول الاسكندنافية.

 

كان نصيب فرنسا هو التمسك جغرافياً بالحلف الرائد. لقد أنتجت البروتستانتية مستوىً تعليمياً عالياً، لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ومحو أمية شامل، لأنها تطلبت أن يكون كل مؤمن قادراً على قراءة الكتاب المقدس بنفسه. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخوف من اللعنة والحاجة إلى الشعور بالاختيار الإلهي، كل ذلك حفز أخلاقيات العمل، والأخلاق الفردية والجماعية القوية.

 

وعلى الجانب السلبي، هناك بعض أسوأ أشكال العنصرية التي ظهرت على الإطلاق ـ معاداة السود في الولايات المتحدة أو معاداة اليهود في ألمانيا ـ منذ أن تخلت البروتستانتية، بمختاريها وملعونيها، عن المساواة الكاثوليكية بين الرجال. لقد أدى التقدم التعليمي وأخلاقيات العمل إلى تقدم اقتصادي وصناعي كبير.

 

واليوم، وعلى نحو مماثل، أدى الانهيار الأخير للبروتستانتية إلى انحدار فكري، واختفاء لأخلاقيات العمل وإلى الجشع الجماعي واسمه الرسمي: الليبرالية الجديدة، وتحول الصعود إلى سقوط للغرب. هذا التحليل للعنصر الديني لا يدل على أي حنين أو رثاء أخلاقي لدي: بل هو ملاحظة تاريخية. علاوة على ذلك، بدأت العنصرية المرتبطة بالبروتستانتية في الاختفاء، ورأينا في الولايات المتحدة أول رئيس أسود، أوباما. ولا يسعنا إلا أن نهنئ أنفسنا بذلك.

 

أما العامل الثالث وراء الهزيمة الغربية هو تفضيل بقية العالم لروسيا. لقد اكتشفت حلفاء اقتصاديين سريين في كل مكان. القوة الناعمة المحافظة الجديدة (المناهضة لمجتمع المثليين) لروسيا، تعمل على قدم وساق؛ حيث أصبح من الواضح أن روسيا كانت قادرة على تحمل الصدمة الاقتصادية. في الواقع، تبدو حداثتنا الثقافية مجنونة تماماً في نظر العالم الخارجي، وهي ملاحظة أدلى بها عالم أنثروبولوجيا، وليس عالم أخلاقي رجعي. والأكثر من ذلك، أننا نعيش على العمل المتدني الأجر الذي يقوم به الرجال والنساء والأطفال من العالم الثالث السابق، مما يجعل أخلاقنا تفتقر إلى المصداقية.

 

في هذا الكتاب، وهو كتابي الأخير، أريد الهروب من العاطفة والحكم الأخلاقي الدائم الذي يحيط بنا لأقدم تحليلاً نزيهاً للوضع الجيوسياسي. في كتابي ركزت اهتمامي على الأسباب العميقة والطويلة الأمد للحرب الأوكرانية. وأنا حزين على غياب عرّابي الروحي في علم التاريخ، إيمانويل لو روي لادوري، وأقرّ بكل شيء: أنا لست عميلاً للكرملين، أنا الممثل الأخير للمدرسة التاريخية الفرنسية في الحوليات!

 

هل يمكن حقاً أن نتحدث عن حرب عالمية؟ وهل انتصرت روسيا حقاً؟ نحن بالأحرى نعيش شكلاً من أشكال الجمود أو من «حالة الأمر الواقع»…

ومن المؤكد أن الأميركيين سيبحثون عن «حالة الأمر الواقع» التي تسمح لهم بإخفاء هزيمتهم. والروس لن يقبلوا بذلك. وهم يدركون ليس فقط تفوقهم الصناعي والعسكري المباشر، بل وأيضاً ضعفهم الديموغرافي في المستقبل. من المؤكد أن بوتين يريد تحقيق أهدافه الحربية بأقل خسائر بشرية عليه، وهو يأخذ وقته في ذلك. إنه يريد الحفاظ على إنجازات استقرار المجتمع الروسي. إنه لا يريد عسكرة روسيا مجدداً، ويريد مواصلة تنميتها الاقتصادية، ولكنه يعلم أيضاً أنه هنالك فجواتٍ في الشرائح الديمغرافية في طريقها إلى الوصول [المقصود هو أن الانخفاض في معدل الولادات في روسيا سيظهر تأثيره بعد عدة سنوات حين يصل من هم أطفال الآن إلى سن التجنيد]، وحينها فإن التجنيد العسكري سيكون أكثر صعوبة في غضون سنوات قليلة (ثلاثة، أربعة، خمسة؟). لذا، يتعين على الروس إسقاط أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي الآن، ومن دون منحهما أي استراحة. دعونا لا نقع في الوهم: الجهود الروسية ستتكثف.

 

إن رفض الغرب التفكير في الاستراتيجية الروسية بمنطقها، بأسبابها، ونقاط قوتها، وحدودها، قد أدى إلى حالةٍ من العمى العام. الكلمات تطفو في الضباب. على المستوى العسكري، فإن الأسوأ قادم بالنسبة للأوكرانيين والغرب. لا شك أن روسيا تريد استعادة 40% من الأراضي الأوكرانية، وتحييد النظام في كييف. وفي تلفزيوناتنا، وبينما يؤكد فيها بوتين أن أوديسا مدينة روسية، فإننا ما زلنا نقول إن الجبهة تستقر..

 

لإثبات التراجع الغربي، تؤكد على مؤشر وفيات الرضع… ما الذي يكشفه هذا المؤشر؟

من خلال ملاحظة الزيادة في معدل وفيات الرضع في روسيا بين عامي 1970 و1974، وتوقف السوفييت عن نشر الإحصائيات حول هذا الموضوع، استنتجت أن ذلك النظام ليس له مستقبل. ولذا فأداة القياس هذه قد أثبتت فاعليتها. والآن، الولايات المتحدة تقف وراء كل الدول الغربية في هذا المضمار. الأكثر تقدماً هي الدول الاسكندنافية واليابان، ولكن روسيا في المقدمة أيضاً. إن أداء فرنسا أفضل من أداء روسيا، ولكننا نتحسس صعوداً لهذا المؤشر لدينا. وعلى أية حال، نحن هنا متخلفون عن بيلاروسيا. وهذا يعني ببساطة أن ما يقال لنا عن روسيا غالباً ما يكون كاذباً: إذ يتم تقديمها لنا باعتبارها دولة فاشلة، مع التأكيد على جوانبها الاستبدادية، ولكنهم لا يرون أنها تمر بمرحلة إعادة هيكلة سريعة: كان السقوط عنيفاً، وكان الصعود التالي مذهلاً.

 

هذا الرقم يمكن تفسيره، ولكنه يعني قبل كل شيء آخر، أنه يجب علينا قبول واقع آخر غير الذي تنقله وسائل الإعلام لدينا. من المؤكد أن روسيا دولة ديمقراطية استبدادية، لا تحمي أقلياتها، وتتبنى إيديولوجية محافظة، ولكن مجتمعها يتحرك، ويصبح تكنولوجياً للغاية مع المزيد والمزيد من العناصر التي تعمل بشكل مثالي. إن قول هذه الحقيقة يعرّفني كمؤرخ جاد وليس كمحب لبوتين. وكان من الواجب على أي شخص مسؤول كاره لبوتين أن يتخذ التدابير اللازمة في مواجهة خصمه. كما أؤكد باستمرار على أن روسيا، مثلها مثل الغرب الذي تصورته منحطاً، تعاني من مشكلة ديموغرافية. إن التشريع الروسي المناهض للمثليين، على الرغم من أنه ربما يروق لبقية العالم، لا يدفع الروس إلى إنجاب أطفال أكثر منا. إن روسيا ليست محصنة ضد أزمة الحداثة العامة، ولا يوجد نموذج روسي مضاد.

 

ومع ذلك، ليس من المستحيل أن العداء العام للغرب يبني ويعطي الأسلحة للنظام الروسي، من خلال إثارة الوطنية الموحدة. فقد سمحت العقوبات للنظام الروسي بإطلاق سياسة حمائية بديلة على نطاق واسع، وهي سياسة ما كان من الممكن أن يفرضها على الروس لولا العقوبات. وهذه السياسة من شأنها أن تمنح اقتصادهم ميزة كبيرة مقارنة باقتصاد الاتحاد الأوروبي. لقد عززت الحرب صلابة المجتمع عندهم، لكن الأزمة الفردية موجودة لديهم أيضاً، ولم تكن بقايا البنية الأسرية المجتمعية إلا وسيطاً. إن الفردية التي تتحول بشكل كامل إلى نرجسية، لا تتطور إلا في البلدان التي تسود فيها الأسرة النووية [أب وأم وأطفالهما، والذين يعيشون عادة في منزل واحد]، وخاصة العالم الأنجلوأميركي. دعونا نتجرأ على استخدام تعبير جديد: روسيا مجتمع تحكمه الفردية المنضبطة، مثل اليابان أو ألمانيا.

 

يقدم كتابي وصفاً للاستقرار الروسي، ثم يتجه غرباً، ويحلل لغز المجتمع الأوكراني المتحلل الذي وجد في الحرب معنى لحياته، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الطابع المتناقض لانتشار الروسوفوبيا الجديدة التي تنتجها الديمقراطيات الشعبية القديمة، ثم إلى أزمة الاتحاد الأوروبي، وأخيراً إلى أزمة الدول الأنجلوسكسونية والدول الاسكندنافية. إن هذه المسيرة باتجاه الغرب تأخذنا خطوة بخطوة نحو قلب عدم الاستقرار في العالم. إنها تغوص في ثقب أسود. لقد وصلت البروتستانتية الأنجلو-أميركية إلى «مرحلة الصفر» في الدين، ما بعد «مرحلة الزومبي»، وأنتجت هذا الثقب الأسود. في الولايات المتحدة، في بداية الألفية الثالثة، تحول الخوف من الفراغ إلى تأليه العدم، إلى العدمية.

 

لكن، ما علاقة كل هذا بما يجري في فلسطين؟ وما أثره على الحرب العدوانية التي تشنّها إسرائيل على غزّة؟ طبعا، لا حديث في الكتاب عن الحرب في غزّة، رغم أن هذه الأخيرة ليست سوى امتدادٍ للحروب التي يقودها الغرب بالوكالة لفرض هيمنته على دول المنطقة وشعوبها. ما يجعل حرب غزّة مهمّة في قراءة نبوءة تود هو ما يتّفق عليه أغلب المراقبين، كون روسيا من أكثر الدول المستفيدة من هذه الحرب، من وجوهٍ عديدة، أولها أنها أقنعت روسيا بصواب سياستها الخارجية المناهضة لهيمنة الغرب، وأبرزها تشتيت التركيز الغربي على دعم أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي، بعدما تحوّل الجزء الأكبر من المساعدات والموارد الغربية إلى دعم حرب إسرائيل العدوانية في غزّة، وجديدها أخيرا التحوّل الكبير داخل الرأي العام العالمي، المتمثل في انتشار الاستياء بين شعوب العالم من السياسات الغربية تجاه هذه الحرب الإجرامية، ومن تغاضي الحكومات والمؤسّسات الغربية عن جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتكب يوميا ضد المدنيين الفلسطينيين في غزّة. فالحرب الإسرائيلية الإجرامية ضد الفلسطينيين لم تفضح فقط ازدواجية المعايير الغربية على أكثر من مستوى، وإنما أعادت إلى السطح الخلافات بين الدول الغربية نفسها، حيث تصرّ الولايات المتحدة على حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في حين يشهد الاتحاد الأوروبي خلافاتٍ واضحة بين دوله بشأن هذه الحرب. وأدّى هذا الخلاف إلى نشوب “حرب سردياتٍ” تؤجج التوتّر داخل مجتمعاتٍ غربية كثيرة، وساهم في تعميق الهوّة الكبيرة التي تفصل بين دول الجنوب والشمال. وحتى داخل الدول الغربية أدّت الخلافات بين الشعوب والحكومات إلى مزيد من الانقسامات الداخلية، وأحدثت استقطابًا في الآراء داخل ديمقراطياتها، وأدّت إلى اتساع هوّة الانقسامات السياسية في عددٍ كبير من مجتمعاتها، وفاقمت بروز ظواهر سلبية مثل صعود تيارات اليمين المتطرّف وتنامي المشاعر المعادية للمهاجرين، وللعرب خصوصا والمسلمين عموما.

 

لقد تسبّب الغزو الروسي أوكرانيا بإحداث انقسام كبير إلى حدٍّ ما بين الغرب والشرق، ولكن النزاع الأوكراني لم يحجز لنفسه مكاناً في صُلب الانقسامات الداخلية الأوروبية بالدرجة نفسها التي حدثت مع الحرب في غزّة. فبعد مرور مائة يوم على الحرب العدوانية، والتي بدأت بمواقف للغرب تبرّرها تحت عنوان حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، يجد اليوم الغرب نفسه في وضع المشتبه بمشاركته في أكبر حرب إبادة جماعية في عصرنا الحالي مهدّد بالإدانة إذا ما احتكم قضاة محكمة العدل الدولية إلى ضمائرهم، وهم يبتّون في الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. وكيفما كان حكم المحكمة، النتيجة واحدة، السقوط الأخلاقي للغرب أمام رأيه العام وأمام الرأي العام الدولي، في انتظار “هزيمته” الوشيكة كما تنبّأ بها إيمانويل تود.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments