سقوط مشروع التغيير الاستراتيجي الأمريكي – الصهيوني | أ. د. محمد سليم قلالة
في شهر أكتوبر من سنة 2022، قبل عام بالضبط من معركة طوفان الأقصى أصدر البيت الأبيض ما يُعرف باستراتيجية “بايدن” للأمن القومي The Biden-Harris Administration’s National Security Strategy وأهم ما جاء فيها ما يلي: “نتنافس بفعالية مع جمهورية الصين الشعبية، التي تُعَد المنافس الوحيد الذي يمتلك النية، والقدرة على نحو متزايد، على إعادة تشكيل النظام الدولي، في حين نعمل على تقييد روسيا الخطيرة”.
كان العالم في نظر القوى الغربية يسير بهذا الاتجاه. لم تبق سوى الصين كفاعل دولي “وحيد” يُقلق الولايات المتحدة ومجموعة السبع الرأسمالية الليبرالية بعد أن تم توريط روسيا في حرب أوكرانيا لتحجيم خطورتها، أما الشرق الأوسط، فقد تم طي صفحته وكاد يُصبح ورقة من الماضي: القضية الفلسطينية لم يعد لها وجود مع ما سُمِّي بالاتفاقات الإبراهيمية، والسلطة الفلسطينية المحاصَرة في الضفة الغربية لن تستمر طويلا لِتذوب ويندرج كل الشرق الأوسط ومعه العالم العربي ضمن المنظور الاستراتيجي الأمريكي-الغربي الصهيوني، القائم على التطبيع الكامل مع الكيان ورفع الراية البيضاء إلى الأبد، وحتى وإن بقيت بعض الدول تقاوم هذا الاتجاه فستُمثِّل أقلية يتم التعامل معها بكافة الوسائل حتى تلتحق بالركب أو تنهار.
وفرح المُهروِلون نحو التطبيع وظنوا أنهم أصبحوا تحت جناح الأقوى! لم يعد هناك من يستطيع الوقوف في وجههم.. وسارع المجرم نتنياهو الناطق الرسمي باسم هذا الاتجاه 15 يوما فقط قبل الطوفان مُبَشِّرا بالنصر المبين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، رافعا بيده خارطة الشرق الأوسط الجديد دون أي إشارة للوجود الفلسطيني، بما في ذلك غزة! بل إن المملكة العربية السعودية التي مازالت لم تنخرط بعد في هذا المسار أدرجها ضمن المُطبِّعين! وفوق كل ذلك سارع لتقديم خدمة جليلة للأمريكيين بتقديم البديل الكبير لِطريق الحرير مشيرا بيده في ذات الخارطة إلى ما سُمِّي بالمَمر البري الذي سيربط الهند بالغرب عبر الإمارات العربية والمملكة السعودية والأردن فميناء “حيفا” المُحتَلة، كما تم التخطيط له على هامش قمة العشرين “بنيودلهي” يوم 9 سبتمبر 2023 بين “الولايات المتحدة” و”الهند” و”المملكة العربية السعودية” والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا فضلا عن الكيان الصهيوني الذي كان خلف الستار (بنحو شهر قبل الطوفان).
ولم يكن لا هو ولا الأمريكان ولا القوى الغربية الكبرى ولا حتى الشرقية يعلمون أن ثلة من المجاهدين الفلسطينيين الأحرار بإمكانيات حركة مقاومة لا أكثر يعملون بصبر وثبات على نسف كل هذه الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة وحليفها الصهيوني وجميع حلفائها الغربيين، بل وسيكون لِعملهم ذاك، تأثير على مجريات التحول الدولي في العالم أجمع! وهو الذي حدث مع أول مشروع تغيير استراتيجي أمريكي-صهيوني- غربي في المنطقة.
وكان هذه هي أول نتيجة استراتيجية لمعركة طوفان الأقصى:
- تغيير مسار التحول الجيوستراتيجي العالمي المُقَر والمفروض من قبل الأمريكيين.
- تغيير مسار مشروع التحول الكبير في الاقتصاد العالمي بإيجاد البديل لاستراتيجية الحزام والطريق الصينية.
- وقف مسار التطبيع الإقليمي عبر ما عُرِف باتفاقات ابراهام التي انضوت تحتها كل من الإمارات والبحرين والمملكة المغربية.
- كشف قضية التآمر الغربي-العربي لقبر القضية الفلسطينية ومحو آثارها تماما من الوجود.
- الإعلان عن ظهور قوى إقليمية دولية جديدة تستطيع أن تقول “لا” لهذا المشروع الصهيوني الأمريكي الغربي وعلى رأسها جمهورية إيران الإسلامية.
- إعلان دخول القوى ما دون الدولة كفواعل في العلاقات الدولية ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند أي تغيير للنظام الدولي.
- إعادة النظر في القواعد التي تحكم العلاقات الدولية والقانون الدولي وهيئات الأمم المتحدة بشكل عام.
- تمكين الرأي العام في الغرب من فضح الغلاف الزائف للديمقراطية الليبرالية المفروضة بالقوة والمتحَكَّم فيها من قبل لوبيهات المال العالمي.
- وكان على العالم أن ينتظر سنة كاملة ليختبر هذه الفرضيات، وهو اليوم يراها تتجسد في الواقع واحدة بعد الأخرى.
على صعيد تغيير مسار التحول العالمي، اضطرت الولايات المتحدة سنة بعد الطوفان إلى تغيير استراتيجيتها للأمن القومي.
صحيح ستبقى الصين هي المنافس الأول لها ولكنها لن تكون الوحيد، لقد أظهر الرد الإيراني الأخير يوم 1 أكتوبر 2024 على الكيان الصهيوني أن هناك في المنطقة مَن لم يقل كلمته بعد ويستطيع أن يقول “لا” للكيان، و”لا” للاستراتيجية الأمريكية الغربية، كما أظهرت السيطرة اليمنية على باب المندب أن الذي يتحكم في المضايق العالمية ليست القوى الكبرى وحدها بل حتى قِوى صغرى تمتلك أسلحة نوعية وإرادة في القتال بإمكانها ذلك.
يكفي أن القوات اليمنية المسلحة دخلت المعركة في الأسبوع الأول من الطوفان وهي الآن في المرحلة الخامسة باتجاه تصاعدي.
بدأ الدور اليمني الداعم لغزة بقصف “أم الرشراش المحتلة” أو ما يُعرَف بـ “إيلات” عند الصهاينة، واحتجاز أول سفينة صهيونيه يوم 19 أكتوبر 2023 ومازال إلى اليوم بشن هجمات على السفن الحربية الأمريكية والبريطانية وضرب تل أبيب بالصواريخ الباليستية والمُسيِّرات.
كما يكفي أن المقاومة الإسلامية في العراق لم تتوقف على الهجوم بالصواريخ والطائرات المُسيَّرة على القواعد العسكرية في العراق (الرملان، الموصل مطار أبوحجر، مطار إِربيل حقل معمر للبترول…) وسوريا (القواعد العسكرية بالحسكة ودير الزور وحمص – بما مجموعه 28 قاعدة)، أما الحديث عن دور حزب الله اللبناني والمقاومة في لبنان، فلا يمكن سوى اعتبار ما يقوم به اليوم هو النسخة الثانية من الطوفان، إذ لم يعد اليوم جبهة مساندة بل جبهة ثانية حقيقية في الدفاع عن فلسطين ولبنان.
هذه التطورات جميعها تؤكد أنه إذا كانت المقاومة الفلسطينية قد أسقطت مشروع التغيير الاستراتيجي الأول الذي أعلنه في الأمم المتحدة المجرم نتنياهو يوم 22 سبتمبر 2023، فإن إيران قد أسقطت الثاني الذي أعلنه ذات المجرم يوم 27 سبتمبر 2024، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنه يمثل مع حلفائه من المُطبِّعين محور البركة مقابل محور اللعنة الذي تقوده إيران، أما نصر الله الذي استشهد في نفس اليوم فسيسقط ما بقي من مرحلة ثالثة لهذا المشروع.
وبذلك، ستبرز لنا جملة من الحقائق الاستراتيجية الجديدة أهمها:
- انكشاف محدودية المشروع الصهيوني القائم على التخويف بالقوة، فالقوة الجوية الأمريكية-الصهيونية-الغربية المُتحالفة ضد الفلسطينيين واللبنانيين لم تُصبح أداة حسم في الصراع، إذ لم تتمكن من القضاء على قوة حرب العصابات، ولا استطاعت حماية الكيان من القوة الصاروخية لإيران برغم القبة الحديدية وصواريخ “أراو” و”حيتس” و”مقلاع داوود” المضادة للصواريخ. وتبين في هذا المجال فشل إعادة بناء الشرق الأوسط من خلال التفوق العسكري وحده والجوي بالتحديد.
- أن السيناريو المُعَد من قبل الأمريكيين لمستقبل الشرق الأوسط والعالم العربي لم يعد قابلا للتحقيق عمليا وستضطر الولايات المتحدة إلى مراجعة حساباتها إنْ مع الكيان الصهيوني أو مع إيران والمملكة العربية السعودية أو القوى الإقليمية الأخرى بخاصة تركيا التي لم تعد تتصرف كجزء من الحلف الأطلسي ولا أصبح الحلف الأطلسي ينظر لها كذلك.
- أن التحالف الدولي الذي تقوده المملكة العربية السعودية للوصول إلى حل الدولتين سيمنعها من الاستمرار في مشروع التطبيع لأن كل المؤشرات تدل على أن الكيان الصهيوني بقيادته الحالية غير مستعد لحسابات مستقبلية بحل الدولتين، بل ويعتبره أخطر من الحرب على وجوده.
وعليه، فإن التبدلات الحاصلة اليوم والمستقبلية ذات الصلة بطوفان الأقصى لن تؤدي إلى أي من السيناريوهات التي أعدتها الولايات المتحدة وحليفها الصهيوني، وإذا لم يتحقق الحل العادل للقضية الفلسطينية فإن الحرب الواسعة التي تستمر طويلا هي الخيار الذي سيبقى في مشهد مستقبلي شبيه بما حدث في العراق وأفغانستان، ينتهي باعتراف أمريكي آجلا أم عاجلا بعدم القدرة على الاستمرار ثم الانسحاب، واتجاه الأحداث اليوم يدل على ذلك..
(*) أستاذ الدراسات المستقبلية والفكر السياسي، كلية العلوم السياسية جامعة الجزائر 3