مفهوم الاستشراف "علم المستقبل" | محمد بن عبد الرحمن آلائيوال مدني

مفهوم الاستشراف “علم المستقبل” | محمد بن عبد الرحمن آلائيوال مدني

2025-01-06 9:07 ص

مفهوم الاستشراف “علم المستقبل” | محمد بن عبد الرحمن آلائيوال مدني*

 

أولاً: لغة:

استَشرَفَ: فعل، استشرفَ يستشرِف، استشرافًا، فهو مُستشرِف، والمفعول مُستشرَف، اِسْتَشْرَفَ مِنْ أَعْلَى التَّلِّ الحُقُولَ البَعِيدَةَ: رَفَعَ بَصَرَهُ ليَنْظُرَ إِلَيْهَا، اِسْتَشْرَفَ المنارُ: اِنْتَصَبَ، عَلاَ، اِسْتَشْرَفَ لِلْخَطَرِ: تَعَرَّضَ لَهُ، اسْتَشْرَفَ: انْتَصَب وعَلاَ، اسْتَشْرَفَ للشيءِ: تعرّضَ، استشراف المستقبل: التطلّع إليه أو الحدس به([1]).

والمستقبل هو: “زمن الذي يلي الحاضر”([2]). ويقصد بمصطلح الاستشراف: الاستقصاء والتوقع أو التحري والاستكشاف والتصور والتنبؤ. والتوقع والاستشراف في اللغة من الفعل: استشرف، أي: علا وانتصب، واستشرف الشيء، أي: رفع بصره ينظر إليه.

 

ثانياً: اصطلاحاً:

يعرف استشراف المستقبل بعدة تعريفات:

  1. مجموعة الدراسات والبحوث التي تكشف عن مشكلات محتملة في المستقبل، وتتنبأ بالأولويات التي يمكن أن تحددها بوصفها حلولا لمواجهة هذه المشكلات([3]).
  2. اجتهاد علمي منظم يهدف إلى صياغة مجموعة من التوقعات المشروطة، أو السيناريوهات التي تشمل المعالم الرئيسية لمجتمع ما.
  3. جهد استطلاعي الأساس يتسع لرؤى مستقبلية متباينة ويسعى لاكتشاف وتكشف العلاقات المستقبلية بين الأشياء والنظم الأنساق الكلية والفرعية في عالم ينمو.
  4. علم جديد يحاول وضع احتمالات محتملة الحدوث، كما يهتم بدراسة المتغيرات التي تؤدى إلى حدوث هذه الاحتمالات وتحقيقها، فعلم المستقبل يهدف إلى رسم صور تقريبية محتملة للمستقبل بقدر المستطاع ([4]).
  5. تحديد صورة متوقعة للمستقبل في مجال واحد أو أكثر في الدراسات الاجتماعية وفي ضوء معلومات علمية دقيقة وباستخدام اساليب علمية مجددة، وخلال فترة زمنية لا تزيد عن عشرين عاما؟
  6. علم جديد يحاول وضع احتمالات محتملة الحدوث، كما يهتم بدراسة المتغيرات التي تؤدى إلى حدوث هذه الاحتمالات وتحقيقها، فعلم المستقبل يهدف إلى رسم صور تقريبية محتملة للمستقبل بقدر المستطاع ([5]).

 

ثالثا: التعريف الاجرائي:

يعرفه الباحث بأنه: “التفكير الاستراتيجي بما سيكون عليه الحال في الغد، واتخاذ الاجراءات والخطوات اللازمة للوصول إلى تحقيق أعلى مراتب النجاح في الأهداف المحددة”.

إن علوم المستقبل أو المستقبليات -بصفة عامة- هي التي تعمل على استشراف المستقبل من خلال اجتهاد علمي منظم، وتهدف إلى صياغة مجموعة من التنبؤات المشروطة، والتي تنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر، لاستكشافِ أمرِ دخولِ عناصرَ مستقبلية على المجتمع أو على الظاهرة المعنية([6]).

وأما استشراف مستقبل التربية، فيعرفها صائغ بـ: “أنها مجموعة المبادئ والأسس والممارسات والعمليات التي يتم بموجبها مواءمة الأنظمة التربوية والتعليمية لتستجيب بكفاءة وفعالية لمتطلبات (العولمة) وتحدياتها السياسية والاقتصادية والتقنية والحضارية”([7]).

قال عبد المقصود سالم: “ونتفق مع صائغ في رؤيته؛ إلا أننا نخالفه في الغاية التي من أجلها يُستشرف المستقبل، فهي عنده، تقف عند الاستجابة لمتطلبات (العولمة)، وعندنا أنها هي استجابة للتحديات التربوية المحتمل حدوثها، ومنها تحديات العولمة”.

فالاستشراف التربوي رؤية نقدية مستقبلية واعية للمتغيرات العالمية والمحلية في جميع مجالات الحياة، ومن خلاله يمكن التعرف على طبيعة التحديات المحتملة وتأثيراتها المباشرة على التربية، وتحديد الإمكانات والخيارات المتاحة لمواجهة التحديات والتغلب على المعوقات، والتمكن من تطوير العمل التربوي بما يتناسب مع مطالب التنمية واستدامتها في المستقبل([8]).

 

مرادفات الدراسات المستقبلية:([9])

للدراسات المستقبلية أكثر من عشر مرادفات، فمنها: علم المستقبل، وبحوث المستقبليات، ودراسات البصيرة، وبحث السياسات، والتنبؤ التخطيطي، والتحركات المستقبلية، والمنظور والمأمول المستقبلي، والتنبؤ المشروط المستقبلية، وغيرها.

وأجرت جمعية المستقبل العلمية عام 1975م استفتاء حول المصطلح المفضل عند أعضائها وكان الرد الإيجابي لمصطلحين فقط وهما: دراسات المستقبل، بحث الأمور المستقبلية، وعلم المستقبل رفضتها رئاسة الوزراء السويدية عام 1974م.

بعد ذكر كل هذه المرادفات رجّح الدكتور علي الزهراني مصطلح: (علم المستقبل) فهو من أقرب المرادفات للدراسات المستقبلية.

 

 تأصيل مفهوم علم المستقبل:

إن اهتمام الإنسان بمستقبله أمر فطري راسخ فيه، وقد لازمه منذ نشأته الأولى، وإن غاية التربية هي العمل على إيصال الإنسان إلى كماله البشري، فإذا كوَّن الإنسان صورة مستقبلية لنفسه أو لمجتمعه، أو للبشرية كافة، وتوفرت له الإرادة لتحقيق هذه الغاية، كانت هذه الغاية المستقبلية هي المحركُ لنشاطه وهي الدافع لتطويره. إذن، فالإنسان مطالب بأن يمتلك صورة مستقبلية توضح له معالم هذا المستقبل، لكي يتسنى له النظر إلى المستقبل -أو الغد بالتعبير القرآني- من خلالها، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اْلَذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اْلله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اْللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيُرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([10]).

 

وتطالب هذه الآيةُ المؤمنين بتقوى الله، والنظر إلى الغد بالنظر العلمي القائم على المعطَيات الملموسة، وهنا يصبح الغد حاضراً في اليوم، بل إن العمل من أجل الغد هو مقياس لتقوى الله في اليوم، وقيمة اليوم هو فيما يقدمه للغد([11]).

 

إن في القرآن الكريم عدداً من الآيات الكريمة تدل على مشروعية علم المستقبل، كالحديث عن الانتصار على الروم، في قوله تعالى: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾([12]). وبيانه سبحانه وتعالى انتصار المسلمين في غزوة بدر، وبيان موت أبي لهب على الكفر، في قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب…).

 

وهناك عدد من الأحاديث تشير في مضانها إلى شيء من علم المستقبل أو الاستشراف، فنمها: ورد في الحديث كلمة تشير إلى الاستشراف وهو: ” فاستشرف لها وفيهم أبو بكر وعمر”([13]). وقوله عليه السلام: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي”. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفتح كنوز كسرى وقيصر. وقوله عليه السلام : “إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة”. وقوله عليه السلام، لحسن رضي الله عنه: “إن ابني هذا سيداً وسيصلح الله به بين الفئتين العظمتين من المسلمين”.

 

ويتزايد شعور الإنسان في عالم اليوم بمدى جناية فصل القيم عن التعليم، وقد سُميت هذه الظاهرة بالازدواجية، وهي في عمومها تُبدي الانفصام الحادث بين القيم النابعة من الدين، وبين العلم، ولقد وضعت بذور نبتة الازدواجية في بلاد الغرب، فكما يقول الشارف: “فالغرب هو الذي دعا في نهاية القرن التاسع عشر إلى ضرورة الفصل بين التعليم والدين، بل صدر مرسوم بذلك في 23 فبراير 1923م، وبصدوره اختفت من البرامج الرسمية كل الواجبات تجاه الإله”. وقد أحدث فصل  الدين عن الحياة -ومنها التعليم- انعكاسات تربوية سلبية خطيرة على واقع العالم بما فيه الغرب.

 

أما التعليم في بلاد العالم الإسلامي، فقد نشأ مغايراً، فالأصل فيه القيم، فمن الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز، إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً، وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه في شتى أقطار العالم الإسلامي فَعَلاَ مرةً وسَمَقَ، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر -على كل حال- يشكل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الغربية، وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هذا العلم الأوروبي، وإضافة لما لحق بالتربية الإسلامية من زخم على مستوى الإنتاج المفهومي والتنظير الفكري لها إزاء فقر بارز على مستوى السلوك. ومن هنا بدأ صراع صامت بين أسلوب التعليم القديم وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من بلاد الإسلام أن تُترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة.

 

وتقتضي تربية المستقبل علاج كثير من الظواهر ومنها: ظاهرة الازدواجية، وما يتفرع منها من أمراض وعلل، وذلك من خلال صياغة مشروع متكامل لدمج القيم الإسلامية في مناهج المواد الدراسية المختلفة، وهذا يتطلب وضع تصور جديد لفلسفة التربية، وبناء الأهداف التعليمية المكافئة لتحديات المستقبل، بل واستحداث خبرات تعليمية وأساليب تقويمية. فالانتقال من الواقع الآني إلى تربية المستقبل يستلزم تنقية مناهج التربية في بلدان العالم العربي والإسلامي مما لحق بها من تغريب في المحتويات، ويسبق ذلك التخلص من النظريات الفكرية الغربية القائمة عليها مناهجنا، وذلك حتى نتجنب الخطر الفكري المُهدد لمعتقدات المتعلمين، والتسيب الاجتماعي الذي يهدد هوية الأجيال الناشئة، فنتخلص من ظاهرة الازدواجية في المناهج التعليمية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وخاصة أن طبيعة الإسلام شاملة شمول الحياة، وطبيعة التربية الإسلامية شاملة لجميع ألوان المعرفة وحقولها([14]).

 

إن لترجمة بناء الرؤية المستقبلية في ميدان التربية، لابد من صياغة سياسات تفصيلية في ضوء هذه الرؤية، وأهم هذه السياسات صياغة رؤية عامة من خلال حشد الالتزام المجتمعي لجميع مؤسسات المجتمع سواء الرسمي منها أو المدني في تحديد فلسفة، وغرض، ووظيفة التعليم في المستقبل. ذلك أن بناء البشر القادرين على الاضطلاع ببناء الرؤى المستقبلية -الذين هم حجر الزاوية في الاهتمام بالمستقبل– يتطلب اشتراك جميع مؤسسات المجتمع سواء الرسمي منها أو الشعبي، إضافة للمشاركة الجماعية. كذلك، فإن تحقيق هذه الرؤى المستقبلية من خلال التربية الإسلامية يتطلب عدم الاقتصار على التنمية المعرفية للإنسان فقط، ولا ببنية عقله الفكري، ولا إكسابه المهارات التكنولوجية، وإنما يتعدى ذلك إلى صياغة تربوية إسلامية شاملة للإنسان و ق مقتضيات العصر ومستجداته المستقبلية، وبناء على التصور الإسلامي([15]).

 

يقول رئيس مجمع اللغة العربية في مصر د. شوقي ضيف في مذكراته: إنه لا يمكن أن نرقى بطالبنا إلى المستوى المطلوب دون عودة إلى المناهج السابقة، وطريقة التعليم السابقة، مع الاستفادة من الأساليب الحديثة([16]).

 

ضوابط استشراف المستقبل:

لا يعنى استشراف المستقبل هو الحديث عن المستقبل مطلقاً، أو فتح باب الحديث عن الغيبيات على مصراعيه، بل هناك ضوابط يجب التقيد بها، ومنها:

  1. اليقين بأن الغيب لا يعلمه إلا الله.
  2. تجنب استخدام المحرمات في الاستشراف كالكهانة والسحر.
  3. الاعتقاد بأن مشيئة الله نافذة فما شاء يكون وما لم يشأ لم يكن.

 

 

*باحث دكتوراه (التربية الإسلامية) بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

 

المصادر والمراجع

([1]) معجم المعاني الجامع الموقع الرسمي، مادة، (ش ر ف )، تاريخ الاقتباس: 27/7/1438هـ، والرابط: http://www.almaany.com/

([2]) معجم اللغة العربية المعاصر، لأحمد مختار وآخرون، دار عالم الكتب الطبعة: الأولى، 1429 هـ – 2008 م، (3/1773).

([3]) ورد هذا التعريف في  موقع البحث العلمي، فرع شركة جوجل، https://books.google.com/ تاريخ النقل: 20/08/1438هــ. الساعة: 9:55

([4]) الدراسات المستقبلية (نشأتها -مفهومها-اهميتها) محمد نصحى. تاريخ النقل:18/07/1438هــ.  الساعة: 06:52 http://kenanaonline.com

([5]) المرجع السابق.

([6]) حسن محمد عبد العاطي الباتع، كلية التربية قسم تكنولوجيا التعليم، جامعة الإسكندرية، تاريخ الاقتباس: 18/8/1438هـ، (5:45م) ، والرابط : https://goo.gl/kH2UIG

([7]) سورة العلق، الآية: (1).

([8]) توظيف مفهوم تربية المستقبل عند إدجار موران في منهج التربية الإسلامية عبد المقصود سالم، بحث منشور في مجلة التجديد، ماليزيا، المجلد (16)، العدد: (31)، 1432هـ، ص: (56).

([9]) من إفادات فضيلة الشيخ أ.د. علي الزهراني (مدرس المقرر) خلال نقاشه في القاعة الدراسية.

([10]) سورة الحشر، الآية: (18).

([11]) المستقبليات والتعليم ، محمد صالح أحمد نبيه، مرجع سابق، (1/9).

([12]) سورة الروم، الآية: (1-3).

([13]) المستدرك على الصحيحين، للإمام الحاكم، المجلد الثالث

([14]) تحديات تواجه مدرسة المستقبل، د. عبدالمقصود سالم جعفر، مقال منشور في الموقع: (تعليم جديد)، بتاريخ: 7/10/2016م, تاريخ الاقتباس: 23/5/1437هـ.

([15])  تحديات تواجه مدرسة المستقبل، د. عبدالمقصود سالم جعفر، مرجع سابق, ص: (58).

([16]) العلم والتعليم: الواقع والمستقبل، حوار أجراه الأستاذ الكاتب محمد ماهر سقا أميني، مع الدكتور محمد مطيع الحافظ، جرى الحوار في ذي الحجة 1431هـ/ ديسمبر 2009م، ونشر في جريدة البيان، ومجلة طيبة بدبي،   http://www.alukah.net/culture/0/90252

 

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments