نقاط حول التكنولوجيا قد لا يعلمها الكثيرون | د. محمد زهران*
الإنسان دائما مهووس باستشراف المستقبل لدرجة قد تصل للإدمان، بل وفى بعض الأحيان على حساب الاهتمام بالحاضر. عندما تسير في شوارع مانهاتن في مدينة نيويورك الأمريكية فإنك ترى ناطحات السحب والمباني العملاقة مستقبلية الشكل ولكنك ترى أيضا محلات لقراءة الطالع سواء عن طريق أوراق اللعب أو الكرة البلورية أو الكف، والكثير من هذه المحلات في أماكن راقية جدا من المدينة، ووجودها في تلك الأماكن مع ارتفاع قيمة الإيجار معناه أن تلك المحلات لها زبائن كثر، ومع وجود تلك المحلات منذ سنوات عديدة فهذا معناه أن سيل الزبائن لا ينقطع، أي إن التقدم العلمي لا يعنى بالتبعية التقدم العقلي، والحاجة لمعرفة المستقبل تقاوم التفكير المنطقي.
هذا ليس معناه ألا نحاول استشراف الغد خاصة في المجالات العلمية حتى نكون مستعدين له أو نكون فاعلين فيه، لذلك علم المستقبليات من العلوم المهمة التي أرجو أن تجد لها مكانا ومكانة في بلادنا. وحتى نتحرك من أرض صلبة لاستشراف المستقبل فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي فإنه ينبغي أن نعرف الحاضر جيدا، وهذا ما سنتحدث عنه أو بمعنى أدق سنتلمس بعض جوانبه في المقال.
المقال سيتحدث عن بعض الأمور المتعلقة بالتكنولوجيا التي قد تفاجئ غير المتخصص، لكن من المهم أن يعلمها حتى يستطيع التعامل مع التكنولوجيا الحالية بما لها وما عليها ولا يندهش كثيرا حين يرى التكنولوجيا القادمة على المدى القريب، لأن الاندهاش الكبير يعمى المرء عن عيوب التكنولوجيا ويجعله يخاف منها وأيضا يشعر بالضآلة أمام من اخترع تلك التكنولوجيا، فلنحاول تجنب ذلك وأرجو أن يكون هذا المقال خطوة صغيرة نحو ذلك الهدف.
لنبدأ بأشهر تكنولوجيا في أيامنا هذه: الذكاء الاصطناعي، لقد تكلمنا عنها في مقالات عديدة في السابق، لكننا اليوم سنتكلم عن بعض الأشياء المتعلقة بهذه البرمجيات قد تكون مفاجأة للبعض، وسنركز على أشهر أنواع برمجيات الذكاء الاصطناعي وتسمى تعليم الآلة أو (machine learning):
- نحن نعلم كيف تعمل هذه البرمجيات لكن لا نعرف بالضبط حتى الآن المدة التي تحتاجها للتعلم؟، مثل التلميذ في المدرسة لا نعلم كم عدد المسائل التي يحتاج حلها حتى يتعلم؟ أو كم مرة يحتاج إلى حلها حتى تثبت عنده ويستطيع حل مسائل أخرى؟. هذه المشكلة تسمى (grokking) وتعنى بالعربية «الاستيعاب» وهي مشكلة ما زالت قيد البحث عند باحثي الذكاء الاصطناعي. لأنه بدون حلها لن نستطيع تحديد المدة التي بعدها يمكننا استخدام هذه البرمجيات والحصول على كفاءة معقولة منها.
- تلك البرمجيات تعطينا حلولاً أو إجابات لكنها لا تستطيع شرح الكيفية التي وصلت بها إلى هذا الحل، وهذه مشكلة كبيرة في مجال تعليم الآلة وتسمى (explainability problem) أي مشكلة الشرح. هناك عدد من الفرق البحثية تبحث حاليا فى هذا الموضوع لكن لم تصل بعد إلى حل كامل. بدون القدرة على الشرح لن نستطيع أن نثق فى تلك البرمجيات حين نستخدمها استخدامات ذات درجة كبيرة من الأهمية مثل المجالات طبية والمجالات العسكرية، ولا نقصد طبعا التسلية الحالية التي لا تتجاوز التحدث مع البرمجيات.
- برمجيات تعليم الآلة تحتاج كميات كبيرة من البيانات المتوازنة والدقيقة وحاسبات فائقة السرعة لخطوة التعليم، لا ننسى أن تلك البرمجيات تسمى تعليم الآلة، حرف الـ«P» فى (chatGPT) تعنى (pre-trained) أى سابقة التعليم. عدد قليل من الدول تمتلك البيانات والقدرات التكنولوجية اللازمة لخطوة التعليم التى بعدها سنستخدم جميعا تلك البرمجيات، فهل نثق فى تلك الدول؟
وحيث إننا ذكرنا الحاسبات فائقة السرعة فهذا سيأخذنا للنقطة التالية.
فى مقال سابق تحدثنا عن قانون مور الذي هو من أهم أسباب زيادة قدرات أجهزة الكمبيوتر، ملخص الموضوع أن الترانزستور هو قطعة إلكترونية صغيرة وهي حجر البناء لأجهزة الكمبيوتر، كلما زاد عدد قطع الترانزستور داخل الرقائق الإلكترونية (chips) كلما تمكن مصممو أجهزة الكمبيوتر من صناعة أجهزة أسرع (بتبسيط مخل من كاتب هذه السطور)، المشكلة الآن أن هذا القانون توقف أو كاد، وبالتالي تصميم أجهزة الكمبيوتر فقد أهم مصدر لتصميم أجهزة أسرع.
هناك بعض الحلول المؤقتة التي تستخدمها شركات تصميم الرقائق الآن حتى نستمر في زيادة سرعة الكمبيوتر، لكن هذه الحلول قد تسعفنا لمدة سنتين مثلا، بعد ذلك إذا لم نجد حلاً فلن نتمكن من صناعة أجهزة أسرع. لاحظ أن البرمجيات خاصة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي تزداد تعقيدا بسرعة شديدة أسرع من قدرة مصممي الحاسبات على تصميم حاسبات قادرة على تشغيل تلك البرمجيات. إذا استمر الحال على ذلك قد لا تتمكن الأجهزة فى المستقبل من تشغيل البرمجيات الجديدة وبالتالي سيعجز الباحثون عن تطوير البرمجيات وهذا كابوس تكنولوجي إذا كان لنا أن نسميه. هذا يأخذنا للنقطة التالية.
الحاسبات الكمية (quantum computing) هي أنواع جديدة من الحاسبات لا تعتمد على الدوائر الكهربائية العادية (الترانزستور كما أشرنا) بل تعتمد على قواعد فيزيائية تسمى ميكانيكا الكم، بدون الدخول في تفاصيل معقدة فهناك أشياء مهمة متعلقة بتلك الأجهزة التي مازالت في طور التجارب، أي لا يمكنك شراؤها خاصة وهي تعمل في درجات حرارة منخفضة جدا:
- أمريكا والصين من أكبر الدول التي تنفق الملايين على هذه التكنولوجيا، لماذا؟ لأن أحد مصدر قوة هذه الأجهزة هي قدرتها على كسر التشفير المستخدم الآن حول العالم، وتستطيع تلك الأجهزة كسره أسرع بكثير من أقوى الحاسبات فائقة السرعة العادية. أعتقد أن الدولة التي ستصل لجهاز متكامل من هذه التكنولوجيا لن تعلن عن اكتشافها سريعا و«ستتسلى» بكسر تشفير أغلب قنوات الاتصال بين الدول والمؤسسات. فماذا نحن فاعلون؟
- هذه الأجهزة سريعة جدا، ولكن في عدد معين من التطبيقات وليست سريعة لكل التطبيقات. من أهم التطبيقات هو كسر التشفير كما أسلفنا. هذا معناه أن أجهزة الكمبيوتر العادية لن تختفي.
- برمجة هذا الأجهزة مختلفة تماما عن أجهزة الكمبيوتر العادية حتى الفائقة السرعة منها، ومازالت بعض الشركات وبعض الفرق البحثية تعمل على تطوير لغات برمجة لتلك الأجهزة.
بعد هذه الجولة السريعة ماذا بيدنا أن نفعل؟
- لنكن مستعدين على مستوى البرمجيات، يجب تدريب طلابنا على برمجة الحاسبات فائقة السرعة بالإضافة إلى البرمجة العادية.
- الشركات دائما تضع مصلحتها في المقام الأول فنحتاج تشريعات نافذة حتى نحجم من جشع الشركات الضخمة العابرة للقارات، ولنأخذ حذرنا.
- يجب أن نكثر من ورشات العمل والمحاضرات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وجوانب قوته وضعفه.
- عند استخدام الذكاء الاصطناعي في شيء غير التسلية يجب أن نضع في الاعتبار نقاط الضعف التي ذكرناها.
- حتى التكنولوجيا التي لا نستطيع الحصول عليها في الوقت الحالي (مثل الحاسبات الكمية) لنقرأ عنها ونستعد لها ونعطى الطلبة نبذة عنها.
هناك الكثير من النقاط البحثية التي ذكرناها في هذا المقال، فهل باحثونا مستعدون أم سننتظر ما يأتي به الغرب ثم نستخدمه؟
*محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك في تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه في نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.