استشراف المستقبل (1) الواقع والتحديات

استشراف المستقبل (1) الواقع والتحديات

2019-11-26 3:00 ص
الكاتب :

الواقع والتحديات

يعيش العالم في تقلبات متسارعة على كل الصعد، وقد أدت هذه التقلبات في أكثر من موضع إلى تغيير في السياسات أو تعديل في الإستراتيجيات والخطط المرسومة نتيجةً لظهور أحداث طارئة أو غير معلنة على الأقل كان لها عظيم الأثر على مجتمعاتنا العربية سيّما وأن هذه المجتمعات تعيش حاضراً هشاً مرتبكاً، الأمر الذي يجعلنا نقف حائرين أمام الكثير من التساؤلات: كيف نتعامل مع المخاطر التي لاتعرف الحدود؟ وكيف سنرى العالم من حولنا؟ وكيف نقرأ المتغيرات بصورة واعية؟ وأي الطرق سنسلك؟ وأي الخيارات سنتبنى؟

 

لعلَّ بارقة الأمل تظهر في توجه جديد لاح في أفق الحضارة الإنسانية وهو ما أطلق عليه (علم استشراف المستقبل)، وليس المقصود هنا الإنطلاق إلى الغيبيات لأن الغيب لايعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، بل هو عبارة عن محاولة لاستكشاف المستقبل وفق الأهداف المخططة باستخدام أساليب كمية تعتمد على قراءة أرقام الحاضر والماضي، أو أساليب كيفية تستنتج أدلتها من الآراء الشخصية القارئة لمجمل الأحداث، ومن المهم لهذا الاستكشاف أن يعتمد على ذلك النوع من المتغيرات القابلة لأن تبنى عليها السياسات التحسينية.

 

وإن كان هذا المسمى جديداً في عصرنا الحاضر، فهو ليس نتاجاً للتقدم العلمي الحديث، بل هو جزءٌ أزلي من ثقافة البشر، فالإنسان العادي لطالما انشغل بتنبؤ المستقبل، دافعه في ذلك الشوق إلى معرفة الآتي من الأحداث، وحاول كثيرٌ من العلماء والمفكرين قديماً استشراف المستقبل من خلال رؤى وتصورات مبنية على اعتبارات منطقية واستنتاجات تحليلية تولدت لديهم، ومن أمثلة هؤلاء أفلاطون في الجمهورية الفاضلة ومالتوس في النظرية المتشائمة.. وغيرهم.

 

ومهما يكن من أمر فإن الاستشراف يمثل حقاً استباقاً يستعد للفعل (prepare) ويستحدث الفعل (proactive)، ينير العمل الحاضر على ضوء المستقبلات الممكنة والمأمولة، وبعبارة أخرى اعتماد منهج التنبؤ العكسي (Back casting)، أي نتصور أننا في نهاية الخط وننطلق منه لنعود للحاضر فيصبح الحاضر ماضياً للمستقبل، فأن نتهيأ للتغيرات المتوقعة لايمنع من أن نعمل على إحداث التغييرات المأمولة.

 

والجدير بالذكر أن استشراف المستقبل وفق أحدث رؤية صادرة عن مركز الإستشراف الإستراتيجي للمستقبل (سنغافورة) يعتمد في ممارسته اعتماداً كلياً على مجموعة من الكفايات المستقبلية والتي تم حصرها باثنتي عشرة كفاية (Futures Competency Framework) يجري تطبيق بعضها في خططنا ولكن بشكل غير منظم، وحتى يغدو العمل أكثر إحترافية ودقة وجب وضع هذه الكفايات في مكانها الصحيح في الإطار العام وفق ثلاثة محاور يختص الأول بالتفكير الاستشرافي، والثاني الإنطلاق من التفكير الاستشرافي إلى التفكير الاستراتيجي، والثالث في دعم الإستشراف الإستراتيجي.

 

وتعد دولة الإمارات العربية المتحدة بفضل قيادتها الحكيمة السباقة للاهتمام بهذا العلم بعد أن نجحت في أن تصبح قبلة جاذبة للعالم بفضل تقدمها المتسارع في شتى الميادين، وتمثل ذلك بقرار سمو الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء باستحداث وزارة خاصة لاستشراف المستقبل حيث يقول: (المستقبل لا ينتظر المترددين). وكلنا ثقة في نجاح دولة الإمارات في تطبيق كل ما يخص استشراف المستقبل، وأن تصبح مؤسساتها المنتج للخطط والرؤى المستقبلية، والمرجع للعديد من مؤسسات وحكومات دول العالم في استشراف المستقبل.

 

إن الأهمية المعقودة على استشراف المستقبل ستؤتي أُكلُها عندما تصبح ثقافة مجتمعية، ويتم إقرارها لنمط تفكير، وعندما تتوجه جهودنا لتنمية رأي عام مهتم بالمستقبل، واستثارة الوعي والتفكير المستقبليين، وتوسيع قاعدة المنشغلين ببناء مستقبل أفضل خاصةً وأن هذا العلم مرتبط بجميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية.

 

وأخيراً وليس آخراً ينبغي التأكيد على أن استشراف المستقبل ليس نوعاً من البذخ الفكري بل هو ضرورة ملحة وأبرز متطلبات العصر لوقاية أنفسنا من الفيروسات الخارجية وتحصينها للمستقبل، فكلنا في هذا العالم أشبه بمسافرين في محطة للقطار السريع فإما أن نركب القطار ونصل إلى الوجهة التي نرنو إليها أو نبقى في مكاننا ويسبقنا كل من حولنا، ولنا حرية الاختيار.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments