الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية | مصطفى الديماني

الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية | مصطفى الديماني

2019-10-29 8:01 م

الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية | مصطفى الديماني

 

تطور مفهوم المستقبل (يعني مفهوم المستقبل لغة ”الاتي بعد الحال”)، كما تطورت النظرة إليه مع تطور الفكر البشري، من نظرة ترى المستقبل “قدراً محتوماً” رسمته وخطّطت له قوى خارقة لا يمكن تجاوز تخطيطها بأي حال من الأحوال، ولا يملك الإنسان حيالها خيارات تُذكر، إلى نظرة تنطلق من مبدأ الصيرورة وقدرة الحياة على التجدّد، وترى في المستقبل بعداً زمنياً يمكن التحكّم في صورته، وكما يقول بريغوجين (Prigogine): ”لا نستطيع التكهن بالمستقبل، لكننا نستطيع صناعته“.

 

إن التعامل مع المستقبل ظاهرة قديمة، ولكنها لم تَرْق لمستوى التخصص العلمي إلا حديثا، حيث إنتشرت كمادة علمية في الجامعات الأمريكية والأوروبية والسوفيتية وبعض جامعات دول العالم الثالث. وأخذت في الذيوع والإنتشار مع النصف الثاني من القرن الماضي، حتى صارت علما له قواعده و أصوله و ضوابطه. أما في الفكر الإسلامي فلم يكن جديدا الإهتمام بالدراسات المستقبلية ذلك أن عقيدة المسلم تفرض عليه التفكير في يومه و غده، و إعداد العدة لدنياه و أخراه، فالمسلم يعمل من اجل ان يرقى بحياته و مجتمعه و بيئته إلى أرفع المستويات. إن مستقبل الانسان هو نتاج ما يقوم به من عمل في حاضره، وما يبذله من جهد في يومه، كما أن المستقبل هو خلاصة تمازج الماضي و الحاضر، فلا الحاضر يقوم من فراغ، ولا الماضي يندثر أثره ويبطل تأثيره، وهما معا يشكلان الملامح الرئيسية للمستقبل.

 

لقد إختلف الباحثون حول ماهية الدراسات المستقبلية هل هي علم أم فن؟ أم هي مزيج بينهما؟ أم هي دراسة “بينية” تتقاطع فيها التخصصات و تتعدد فيها المعارف؟

 

فعلى صعيد العلم، ثمة إجماع بين مؤرخي الدراسات المستقبلية على أن “هربت جورج ويلز”- أشهر كتاب الخيال العلمي – هو أول من صك مصطلح ‘علم المستقبل‘ عام 1902 وقدم إضافات عميقة في تأصيل الإهتمام العلمي بالدراسات المستقبلية، مؤذّناً بميلاد علم جديد يبحث عن منطق المستقبل بالطريقة نفسها التي يبحث فيها علم التأريخ عن منطق الماضي. ويعتبر عالم الاجتماع s.gilfillain الأمريكي أول باحث استخدم تعبير علم المستقبل في أطروحته لنيل الدكتوراه عام 1920، كما أطلقه عالم السياسة الالماني أوسيب فلختايم عام 1943 ان يدعو لتدريس المستقبليات منذ عام 1941، وكان يعني به إسقاط التاريخ على بعد زمني لاحق.

 

وفى كتابه فن التكهّن عام 1967 يؤكد ”برتراند دي جوفنال” أن الدراسة العلمية للمستقبل فن من الفنون، ولا يمكن أن تكون علماً، بل ويصادر دي جوفنال على ظهور علم للمستقبل. فالمستقبل كما يقول ليس عالم اليقين، بل عالم الاحتمالات، والمستقبل ليس محدداً يقيناً، فكيف يكون موضوع علم من العلوم.

 

ويصنّف اتجاه ثالث الدراسة العلمية للمستقبل ضمن “الدراسات البينية ” باعتبارها فرعاً جديداً ناتجاً من حدوث تفاعل بين تخصّص أو أكثر مترابطيْن أو غير مترابطيْن، وتتم عملية التفاعل من خلال برامج التعليم والبحث بهدف تكوين هذا التخصّص.

 

ويؤكد المفكّر المغربي المهدي المنجرة –رحمه الله– : ”أن الدراسة العلمية للمستقبل تسلك دوماً سبيلاً مفتوحاً يعتمد التفكير فيه على دراسة خيارات وبدائل كما أنها شاملة ومنهجها متعدد التخصّصات”. وهي في رأي آخرين نتاج للتفاعل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهي ليست علماً، وإنما تبني رؤاها على العلوم المختلفة. إنها مجال معرفي بيني متداخل وعابر للتخصّصات وتقنياته من كل المعارف والمناهج العلمية، ومفتوح على الإبداعات البشرية التي لا تتوقف في الفنون والآداب والعلوم. و رغم نموه المطرد، وتأثيره الكبير، فهو سيظل مفتوحاً للإبداع والابتكار.

 

لقد إرتبط ظهور الدراسات المستقبلية و الحاجة إلى إستشراف المستقبل و معرفة أفاقه، بالضرورات العسكرية والإستراتيجية للدول خاصة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتقتحم بعد ذلك الدراسات المستقبلية ميادين مدنية ذات توجهات مختلفة تجارية و تكنولوجيا و تعليمية و فكرية كالمؤسسات الامريكية الفكرية التي تسمى ب Think Tanks التي تضم عددا من المفكرين الاستراتيجيين و الخبراء في العلاقات الدولية، و هي مؤسسات في خدمة المراكز الثلاثة الكبرى لصنع القرار الأمريكي: البيت الأبيض، الكونجرس، ووزارة الدفاع (البانتغون).

 

وعلى الصعيد الدولي، تعتبر “جمعية مستقبل العالم ” W.F.S ” من أشهر المؤسسات الدولية التي تضم عددا مرموقا من الأكاديميين، وقد بدأ نشاطها على يد إدوارد كورنيش Cornish، وتضم عشرات الألوف في عضويتها، وتصدر مجلة شهرية بعنوان “عالم المستقبل” وأخرى فصلية. كما أصبحت مادة أو مقررا أو مشروع استشراف المستقبل Futurology مادة أساسية تدرس في مئات الكليات في العالم، وتعنى هذه الجهود جميعا بفهـم البنى والأنساق التاريخية والتدفق المعلوماتي الهائل لتحليل درجات التنبؤ والقياس والمقارنة لمشاهد المستقبل، ويكفي أن نعرف أن الهند أنشأت معهدا للدراسات المستقبلية.

 

وتتجلى أهمية الدراسات المستقبلية التي أصبحت ضرورة حتمية لمختلف الدول و المجتمعات، إلى ما تتيحه تلك الدراسات من بدائل واختيارات مطروحة تساعد صانع القرار بالمفاضلة بينها بما تسمح به الامكانات و القدرات المتوفرة، فالدراسات المستقبلية ليست مبنية على التكهن و الدجل كما كان معروفا في القديم بل تستند على مؤشرات علمية وإحصاءات دقيقة هذا من جهة، أم من جانب أخر فدراسة المستقبل تساهم أيضا من التقليل من أخطار الأزمات في المستقبل عند وقوعها والتخفيف من شدتها، خاصة وأن الازمة بطبيعتها تتميز بضيق الوقت مما يستدعي توفر خيارات أنية وجاهزة من أجل إدارتها والتحكم فيها على النحو المرغوب.

 

إن القيام بالدراسات المستقبلية يستلزم توفر عدة شروط، أهمها وجود ديمقراطية حقيقية تسمح بحرية التفكير، لان الباحث في الدراسات مستقبلية يجب أن يكون محايدا و موضوعيا في بحثه دون التعرض لضغط من جهة معينة، إضافة إلى وجود خبرات وكفاءة عالية وإمكانات مادية كذلك.

 

و في عالمنا العربي، فإن إحدى ثغرات ثقافتنا العربية كما يرى الدكتور ”وليد عبد الحي” تتجسد في أحد أبعادها في موقفها من الزمن، إذ طغى عليها الماضي و الحاضر، بينما لم يحظ المستقبل ”حيث سنعيش” إلا بأقل القليل، وكم هي الدهشة التي تعتري الباحث لوفرة ما يجد من دراسات غربية وإسرائيلية عن مستقبل المنطقة العربية بأنظمتها و شعوبها و حضارتها، وكلها دراسات يستشف من ثناياها محاولة إستباق الزمن لتكيف الواقع العربي بشكل أو بآخر.

 

ورغم بعض الجهود العربية التي تحاول إستشراف مستقبل الأمة العربية، كوجود بعض المراكز السياسية الإستراتيجية (كالمركز العربي للدراسات وتحليل السياسات، مركز الوحدة العربية للدراسات …) والدوريات (كمجلة السياسة الدولية – المستقبل العربي ..) فهي تظل بدون جدوى بسبب غياب الحرية الأكاديمية، وصعوبة الوصول إلى المعلومة وضعف الإمكانات البشرية والمادية التي هي ركيزة البحث العلمي، علاوة على عدم إدراج والإهتمام بمادة الدراسات المستقبلية في العديد من الجامعات العربية بإسثناءات قليلة كجامعة الجزائر.

 

*  باحث في العلاقات الدولية – المغرب

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments