رسالة المنبر "استشراف المستقبل" | د. محمد سعيد بكر

رسالة المنبر “استشراف المستقبل” | د. محمد سعيد بكر

2019-12-06 3:00 ص

رسالة المنبر “استشراف المستقبل” | د. محمد سعيد بكر

 

المحاور:

 

تعيش الأمم الحية بين ماضٍ عريق تستفيد من أخطائه، وتتغنى بأمجاده، وحاضر مزدحم تنتفع من فُرصه، وتتجاوز تحدياته، ومستقبل عريض تحشد له دروس الماضي والحاضر، ليكون مستقبلها ذاك أجمل وأنفع.

 

– التاريخ هو عيننا على المستقبل، فالتاريخ يعيد نفسه، والمشاهد متكررة، ولولا ذاك ما فتح الله تعالى لنا في كتابه العظيم حكاية تاريخ البشرية، والقصد من هذا الفتح هو أن نتعلم دون أن نتألم، وأن ندرس أنماط السلوك البشري المتكرر عبر الأزمنة.

 

– لدى الأمم كلها أدوات استشراف للمستقبل، تستقرئ من خلالها نقاط القوة والضعف، وتبحث لنفسها عن دور لتخرج من الطور، والمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يقولون.

 

– ليس استشراف المستقبل ضربا بالفنجان، ولا تتبعا للعرافين والكُهان، ولا هو رجم بالغيب بلا برهان، فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يكن ليعلم من الغيب سوى ما فتح الله تعالى له: (قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)) الأعراف، والجن على ما أوتوا من قدرات لهم حدود لا يتجاوزونها: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا (9)) الجن.

 

– لدى أمة الإسلام أدوات كثيرة تمكنها من استشراف المستقبل وحسن الاستبصار بما هو مخبوء في قابل الإيام، ولكنه غمِّيَ عليها وطُمس على سمعها وبصرها، لتظل في حالة تيه، لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم، وتساق إلى حتفها كما تساق الأغنام إلى مسلخ الجزار.

 

– من أعظم فوائد استشراف المستقبل:

 

1. حسن الإعداد والتخطيط للفتوحات والانجازات والمبادرات القادمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يستشرف المستقبل وهو يحفر الخندق يوم الأحزاب، ما كان ليغفل عن إعداد جيوش الفتح، إذ ليس الأمر مجرد تبشير، بل هو عمل وإعداد وتحضير.

 

2. اتخاذ تدابير الوقاية المناسبة لأي مرض أو غزو أو بلاء أو أزمة وفتنة، والوقاية خير من العلاج، ولقد اعتمدت خطة يوسف عليه السلام الاستشرافية للمستقبل تدابير وقاية اقتصادية؛ حفظت البلاد والعباد من أزمة كانت لتأكل الأخضر واليابس، لولا أن الله سلّم: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)) يوسف.

 

3. استثمار الوقت والجهد والمال، وإيقاف الهدر في الطاقات، ومراعاة الأولويات في مختلف الاهتمامات، وتوجيه الأجيال القادمة إلى ما فيه صلاحها في المستويات الحياتية المختلفة، فإذا كان من نتائج استشرافنا للمستقبل ما ينبئ عن ظهور حاجة إلى دراسة علم من العلوم، كان جديرا بنا أن نوجه الأجيال إلى دراسته بشكل مبكّر دون تردد.

 

4. بث الأمل في النفوس وتعميق الثقة بمستقبل مشرق، ونبذ كل صور اليأس والاحباط والاكتئاب، والدفع باتجاه تحريك عجلة الحياة، وعدم التوقف على الرغم من كثرة العقبات، طالما أن استشرافنا للمستقبل يؤكد لنا مصداقاً لهذه الآية: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)﴾ [الرعد]

 

– من أعظم أدوات استشراف المستقبل لدى أمة الإسلام ما يأتي:

 

1. القرآن العظيم وما ما حكى لنا فيه رب العزة من قصص السابقين، وجانب من السيرة النبوية، ومشاهد من علامات يوم القيامة.

 

2. القرآن العظيم بما تناول من سنن كونية ومعادلات لا تتخلف، بصورة قواعد ثابتة، لها مقدمات ونتائج، تنبئك عن مستقبل أكيد لمن وافق تلك السنن، ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) محمد، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)) الأنفال.

 

3. السنة النبوية الشريفة وما فيها ما أحاديث الفتن وأشراط الساعة الصغرى والكبرى، فمنها يستقرئ المسلم تغيرات كبرى تطرأ على حياتنا السياسية: (تُنقض عرى الاسلام عروة عروة، فأولها الحـُكم، وآخرها الصلاة)، والاجتماعية: (حتى يكون السلام على المعرفة)، والاقتصادية: (يؤتمن الخائن، ويخوَّّن الأمين)، والتوعوية: (وينطق في الناس الرويبضة)، والأمنية: (ويكثر الهرج، القتل)، هذا وغيره؛ لتأخذ الأمة حذرها، فهو يعلم أن وجوده معها لن يستمر، فحذرها مما سيصيبها رحمة منه بها، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

 

4. السنة النبوية الشريفة وما فيها من بيان استشرافي لظواهر وأحداث مرعبة كأحاديث الدجال ويأجوج ومأجوج وما يتبع ذلك من بيان أدوات الحصانة من هذه الظواهر (ونعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال).

 

5. السنة النبوية الشريفة وما فيها من تأكيد على حتمية المواجهة والصراع بين الأمة وعدوها الاستراتيجي: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا يهود).

 

6. الخبرة والتجربة التي تحصل عليها أبناء الأمة بحكم ما وقع عليها من بلايا وأزمات، جعلت لدى فئة منهم صابرة مصابرة؛ بصيرة ينظرون من خلالها بنور الله تعالى، فيقدرون للمستقبل قدره، وهم الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها أو خذلها، أو هم من جاء وصفهم في سورة الإسراء: (عباداً لنا أولي بأس شديد).

 

7. ارتباط المسلم الصادق بحبل المشيئة الإلهية يجعله لا يخطىء هدفه القادم، لما يملكه من يقين على الذي يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا (24)) الكهف.

 

– الأمم الحية لا تخاف من مستقبلها ولا ترتبك من نتائج استشرافها له، بل تعمل على التغيير لتحدّ من عواقب ما يلوح في الأفق من بلايا وأزمات، لتخرج بأقل قدر ممكن من الخسائر، بل وأكبر قدر ممكن من الأرباح، (بناء سفينة نوح عليه السلام نموذجاً) أما الأمم الميتة فتنتظر حتفها ودفنها حتى وإن كان فيها رمق (التعامل السلبي مع أحاديث الفتن خصوصاً ما يدعو منها إلى الاعتزال).

 

– صحيح أن لدى الآخرين مراكز أبحاث ودراسات استطلاعية استشرافية كثيرة، لكن ما يتملكهم من كِبر وغرور جعلهم يُلدغون من جُحْر واحد مرات ومرات، ولو أنهم ينتفعون بما يستشرفون لعلموا أن الظلم مرتعه وخيم، وأن السحر ينقلب على الساحر، وأن حبال الخداع والتزييف والكذب قصيرة، وأنها لو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم، لكنهم لا يتعلمون، فما فائدة ما يستشرفون؟!!

 

– إن من أعظم واجبات الأمة الشاهدة، صاحبة الرسالة العالمية، أن تتحسس احتياجات البشرية القائمة، وأن تستطلع الاحتياجات القادمة، ليكون لها الدور الأبرز في سدادها وتغطيتها، وإلا فإنها حينئذ تتخلى عن دورها الحقيقي في السيادة (الخادمة) ليأخذه آخرون لا يزيدون البشرية إلا شقاءً وحزناً وبلاءً وألماً، وهم يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

 

ملاحظة: رسالة المنبر عبارة عن أفكار محددة، نرى لها أولوية، فنعرضها بشكل أسبوعي، بصورة محاور ضمن موضوع محدد، لينتفع بها المدرسون والواعظون والباحثون والخطباء والإعلاميون وأصحاب الرأي على تنوع منابرهم، في مختلف أنحاء العالم.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments