فقه المآلات واستشراف المستقبل | د. أحمد محد كنعان

فقه المآلات واستشراف المستقبل | د. أحمد محد كنعان

2019-10-25 11:10 ص

فقه المآلات واستشراف المستقبل | د. أحمد محد كنعان

 

إن الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى

 

أما بعد: فقد شهد عصرنا الحاضر فوضى في الفتاوى لم تسبق في التاريخ الإسلامي، ولعل أخطر ما في هذه الفتاوى الشاذة استهتارها بالمآلات، أي تجاهل النتائج التي تفضي إليها هذه الفتاوى، التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر فتوى أباح فيها أحدهم للمرأة الموظفة أن ترضع زميلها في العمل بحجة منع الخلوة المحرمة ! ومنها كذلك فتوى بعضهم “زواج المسيار” و “الزواج السياحي” ونحوه من ضروب الزواج المستحدثة التي أربكت المجتمع المسلم وأثارت خلافات حامية بسبب لما آلت إليه هذه الفتاوى من نتائج سلبية ومفاسد!

 

وقد لاحظنا أن من أهم أسباب شذوذ هذه الفتاوى عدم اعتبار المآلات التي تئول إليها هذه الفتاوى، علماً بأن اعتبار المآلات من أهم المقاصد التي ينبغي مراعاتها؛ لأن إطلاق الأحكام الشرعية دون مراعاة لمآلاتها إنما هو نوعٌ من العبث، وهو أقصر الطرق إلى الضلال والعبث باسم شريعة الله.

 

وللأسف فقد ساهمت وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في نشر هذه الفتاوى والترويج لها، مما زاد في حيرة الناس وجعلت بعض المسلمين يتشككون بدينهم، وأعطت الفرصة لإثارة الشبهات حول الإسلام، والاستهزاء بعلمائه عامة!

 

فماذا يعني فقه المآلات؟

 

لقد تحدث الفقهاء عن فقه المآلات في صيغة قواعد، فقالوا: الأمور بعواقبها، أي بمآلاتها، وقالوا: الأشياء تحرم وتحل بمآلاتها، وقالوا: العبرة للمآل لا للحال، فالضرر في المآل ينزل منزلة الضرر الحال، وقالوا: المتوقع كالواقع، ويبطل التصرف إذا كان ينتهي إلى مآل الممنوع، وقالوا أيضاً: الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها؛ وهذه الأصول متفق عليها في الجملة عند جمهور العلماء، وإن اختلفوا في طريقة التعبير عنها أو في بعض تفاصيله.

 

ويظهر مما تقدم أن فقه المآلات هو الفقه الذي ينظر إلى مآل الحكم الشرعي عند تنزيله في الواقع، فإذا رأى المجتهد أن الحكم سيؤدي إلى مقصده أمضاه، وإذا رأى أنه لا يؤدي إلى مقصده عدله أو غيّره بحسب ما يترجح لديه من مآل.

 

وهذا يعني أن على الفقيه أن يجتهد في توقع ما سيؤدي إليه الحكم الشرعي عند تطبيقه، ولهذا يطلق بعض المعاصرين على فقه المآلات اسم: فقه التوقع.

 

وفقه المآلات يلزم المجتهد -بعد أن يستشرف المستقبل ويتوقع ما ستؤول إليه الأمور- أن يأخذ ذلك التوقع بعين الاعتبار في صياغة حكمه.

 

فقه المآلات والاجتهاد: 

 

يعد فقه المآلات نظراً اجتهادياً يقوم على الترجيح بين ظاهر الدليل الشرعي وما يتضمنه من حكم شرعي، وبين ما قد ينتج عن تنزيل هذا الحكم على محله من مصالح أو مفاسد، وقد أورد الإمام الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله عدة قواعد تنبني على أصل اعتبار المآلات، ذكر منها: سدّ الذرائع، وقاعدة الاستحسان، وقاعدة الحيل.

 

أمثلة من الكتاب والسنة:

 

وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية شواهد كثيرة تشهد باعتبار المآلات في الأحكام؛ من ذلك مثلاً قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون}، سورة الأنعام 108. فقد نهاهم عن النيل من آلهة الكفار مخافة أن يردوا على هذا السب بالتطاول على جلال الله سبحانه، ومن الشواهد كذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}، سورة الأحزاب 37. فقد علل الحكم برفع الحرج عن المؤمنين. ومن الشواهد أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} سورة البقرة 183. فقد شرع الصيام لما يؤول إليه من تقوى.

 

وورد في السنة شواهد كثيرة تشهد لاعتبار المآلات في الأحكام، منها مثلاً أن بعض المنافقين تطاولوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وظهرت منهم أمارات الغدر فأراد بعض الصحابة قتل هؤلاء المنافقين، فرد عليهم -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، صحيح الترمذي.

 

“لا يتحدث الناس” .. هكذا علل النبي -صلى الله عليه وسلم– رفضه قتل المنافقين؛ فقد نظر –صلى الله عليه وسلم– في مآل ذلك، وأثره في الدعوة، فقد نظر إلى “الرأي العام” وأثره في مسيرة الدعوة سلباً وإيجاباً، وأخذه بعين الاعتبار فيما لو فعل ذلك، فتوقف عن قتلهم. فأين هذا الموقف النبوي الحكيم المعظم للمآلات؛ أين ذلك الموقف من فتاوى هذه الأيام التي تبيح قتل المسلمين غير عابئة بمآلات، متجاهلة فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟!!

 

ومن الشواهد التي تراعي المآلات ما ورد عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مرفوعاً قَالَ : “بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ” فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ إِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ”. فَأَمَرَ رَجُلا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّهُ عَلَيْهِ.

 

(لا تزرموه) فقد نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعوا عنه بوله أو تعنيفه، تقديراً من النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يمكن أن تؤول إليه حالة الأعرابي الذي يبدو أنه كان حديث عهد بالإسلام، فلربما أدى منعه وتعنيفه إلى ارتداده عن الإسلام!

 

والشواهد في الكتاب والسنة كثيرة مما أشار فيها الشارع الحكيم إلى اعتبار مآلات التشريع، فالناظر في الشريعة قد يقع له في بعض الأحيان قدر من التردد في الجزم ببعض الأحكام الشرعية، وما يتنازعها من جواز الفعل وما يؤول إليه من المفسدة، أو جواز ترك الفعل وما يؤول إليه من دفع مفسدة راجحة، فعند هذا التردد يظهر الفقيه حقاً من مدعل [مدّعي؟] الفقه، فإن هذا الباب من العلم (فقه المآلات) وما يترتب عليها من المفاسد والمصالح باب عزيز من العلم لا يحسن النظر فيه كل أحد، بل لا بد للناظر فيه أن يكون على قدر راسخ من العلم والتحقيق، مع بعد نظر وأفق واسع في معرفة أحوال المكلفين، وأحوال الأمة، وما يحيط بذلك من تغيرات ومؤثرات، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق”.

 

ومن الشواهد كذلك مواقف النبي –صلى الله عليه وسلم– في “صلح الحديبية” وما في تلك المواقف من دروس وعِبَر لا مجال هنا لذكرها جميعاً، لكن نكتفي منها بدرس عظيم وقاعدة أصيلة أصَّلها النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة إلى يوم القيامة، وهي قاعدة : “اعتبار المآلات” وما يترتب على هذه القاعدة من مصالح للأمة الإسلامية والعالم أجمع؛ فقد طلبت قريشٌ من رسول الله مطالب رأى أغلب الصحابة أنها مطالب مجحفة؛ منها أن يمحوَ النبي “بسم الله”، و”محمد بن عبدالله” وأن يعود المسلمون إلى المدينة ولا يدخُلوا مكة هذا العام، وكذلك من جاء المدينة من قريش مسلماً دون إذن وليِّه على المسلمين ردّه إلى قريش، ومن ارتدَّ عن الإسلام وذهب إلى قريش فلا ترده قريش، فقبِل -عليه الصلاة والسلام– كل هذه المطالب المجحفة، لأنه نظر إلى المآلات، فقد مضت الأيام لتثبت أن ذلك الصلح كان فتحاً مبيناً للإسلام، وفي هذا درس عظيم ينبغي أن يفقهَه كلُّ من يدعو إلى الله تعالى، فلا يكن همه الانتصار لنفسه، بل أن يكن همه تحقيق مصلحة الأمة.

 

وإن المتأمل في كلام أئمة الفقه يقع له قدر واسع من تطبيقات فقه المآلات؛ مما قرروه في قواعد الاستدلال والنظر، فمن ذلك مثلاً اعتبار جمهور العلماء قاعدة سد الذرائع، وقاعدة الحيل والمنع منها، كما ذكرنا آنفاً. ولا يعترض على هذا بأن بعض الفقهاء قالوا بجواز الحيل في الجملة، فإن الذين ذهبوا إلى هذا القول إذا تأملت تطبيقاتهم وجدتها لا تنفك عن اعتبار حكم المآلات، ودليل ذلك أنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه صار إلى القول بالحيل بقصد صريح منه إلى اطراح الحكم الشرعي وإسقاطه بالحيل.

 

فقه المآلات واستشراف المستقبل (Futurology):

 

استشراف المستقبل أو الدراسات المستقبلية (Future studies) هو علم حديث نسبياً يهتم بالتغيرات التي يتوقع حصولها في المستقبل، وقد أصبح لهذا العلم اليوم أصول وقواعد علمية راسخة، ساهم من خلالها بتحقيق قفزات كبيرة للشركات العملاقة التي أخذت بهذا العلم في برامجها، وكذلك الحكومات التي أخذت بهذا العلم فحققت انتصارات ونتائج عظيمة.

 

وقد تطور هذا العلم تطوراً كبيراً خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي فأصبح يتناول مواضيع محددة وجداول زمنية للعمل كلها تقوم على منهج علمي، وهذا لا يعني أن توقعات هذا العلم قطعية، بل يبقى في توقعاته نسبة من اللايقين الذي يحاول علماء المستقبليات تقليله إلى الحد الأدنى، ما جعل هذا العلم اليوم يوفر أرضية مستقبلية مقبولة يمكن اعتمادها والبناء عليها.

 

وهذا ما يدعونا اليوم إلى اعتماد هذا العلم من قبل المجتهدين لمساعدتهم في تقدير مآلات الأحكام وما قد ينجم عنها مستقبلاً من مصالح أو مفاسد. ومن ثم الخروج بأحكام أكثر تحقيقاً لمصالح البلاد والعباد.

 

هذا مع التأكيد والتذكير بأهمية تقدير مآلات الأحكام الشرعية، وبخاصة منها الأحكام العامة التي تشمل شرائح واسعة من الأمة، ولاسيما منها أحكام الدماء والفتن التي يترتب على سوء التقدير فيها نتائج خطيرة وآثار وخيمة قد تهدد مستقبل الأمة!!

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments