مستقبل العراق بين الراهن والشخصية التاريخية | أ. د. وليد عبد الحي

مستقبل العراق بين الراهن والشخصية التاريخية | أ. د. وليد عبد الحي

2022-08-04 11:48 م

مستقبل العراق بين الراهن والشخصية التاريخية | أ. د. وليد عبد الحي

 

هل ما يجري هذه الأيام في العراق هو تعبير عن “نزق تيار أو قائد حزبي” هو مقتدى الصدر أم تعبير عن بنية اجتماعية مشققة منذ أكثر من 1500 عام، أم هو تعبير عن أوزار الجغرافيا السياسية التي حشرت العراق في منطقة نزاعات تاريخية ذات طابع سياسي واقتصادي واجتماعي وحضاري؟

 

بداية لا بد من رصد أبرز مقومات الكيان السياسي العراقي الإجرائية، ويكفي أن نرصد مستوى الظواهر المركزية التالية:

 

أولاً: مستوى الاستقرار السياسي في العراق:

 

لم تغادر العراق منذ عام 2000 مكانتها في ترتيب الاستقرار السياسي بين دول العالم، فهي دائماً ضمن العشرة دول الأكثر اضطراباً، فطبقاً لمقياس كوفمان الذي يقيس بين +2.5 (الأكثر استقراراً) و(-2.5) الأكثر اضطراباً، كان معدل العراق خلال العقد السابق هو -2.3 وفي الرتبة بين 184 و191 من بين 194 دولة.

 

ثانياً: الديمقراطية:

 

بقيت العراق أيضا في ذيل دول العالم بمعدل ديمقراطية لم يتجاوز 4.8 من عشر في عام واحد هو 2014، أما بقية الأعوام العشر الأخرى فبقي في حدود 3.2 من عشرة، كما حافظ على مكانة تقع في ذيل مؤشر الديمقراطية بين دول العالم، بل إنه تراجع في السنوات الاخيرة الثلاث بشكل واضح.

 

ثالثاً: الفقر وسوء توزيع الثروة (Gini Index):

 

تشير مختلف نماذج القياس أن الثروة في العراق موزعة على النحو التالي:

 

50% من السكان في أسفل سلم الثروة يمتلكون 12.62% من الثروة.

 

10% من السكان في أعلى السلم يمتلكون 52.23% من الثروة.

 

1% من السكان في أعلى السلم يمتلكون 20.72% من الثروة.

 

 

ذلك يعني أن 1% من السكان له من الثروة ما يساوي مرة ونصف من ثروة نصف المجتمع العراقي، وهو ما يعزز أن سوء توزيع الثروة طبقا لمقياس “غيني” يزداد سوءاً، بل إن 48.29% من العراقيين لا يتجاوز إنفاقه اليومي 5.5 دولار.

 

رابعاً: الفساد:

 

يرتبط الفساد بالاستبداد السياسي غالباً، وبسوء توزيع الثروة، وبعدم الاستقرار السياسي، فالعراق يقع ضمن الدول الأكثر فساداً، وكانت مرتبته تتراوح بين 157 و175 خلال الفترة 2010 و2020، وبقيت نسبة الشفافية فيه تتراوح بين 1.5 إلى 2.3 من عشرة.

 

 

ذلك يعني أن الازمة الحالية ليست خروجاً على الاتجاه العام للدولة العراقية، وانعكست هذه المؤشرات على الواقع الداخلي وتغذت بعدد من الظواهر التي لا بد من أخذها في الاعتبار:

 

 

1- ان الدستور الذي كان لبريمر (المفوض الامريكي) الدور الأكبر في وضع ركائزه عزز التشقق الاجتماعي (سني/شيعي، عربي/كردي/تركماني ، مسلم/مسيحي/صابئي /آشوري/ ..إلخ). وقد أدى ذلك لطغيان الهويات الفرعية على الهويات الجامعة فتعزز التشقق وبدأ يعبر عن نفسه تنظيماً بل واستقرار أعراف دستورية بأن الرئيس كردي ورئيس الوزراء شيعي ورئيس البرلمان سني، وكأن التجربة الفرنسية في لبنان قد استنسخت من حيث الجوهر.

 

 

2- تحويل العراق من لاعب إقليمي إلى ملعب إقليمي، فمن ناحية هناك مشروع أمريكي إسرائيلي لتعزيز النزعة الانفصالية بين الأكراد وربما التركمان لاحقاً، وهناك نزوع إسرائيلي لمنع العراق من أخذ دوره بخاصة في الصراع العربي الإسرائيلي، فالمعروف أن العراق هو البلد الوحيد غير المجاور لفلسطين ولكنه شارك في كل الحروب مع إسرائيل، وهناك إيران التي تخشى من تنامي العداء لها في العراق بشكل عام أو تنامي العلاقة بين التيار الصدري وبعض الدول الخليجية المناهضة لإيران وبخاصة السعودية، ثم هناك التدخلات التركية عسكرياً وسياسياً وأخيراً في نطاق المياه لمنع الأكراد من التجسيد لكيانهم السياسي، ناهيك عن دور “اليد الخفية” للسعودية عبر قنوات اجتماعية وسياسية ومذهبية واقتصادية مختلفة.

 

 

3- التشظي والتعدد في القوى العسكرية: فإلى جانب الجيش والقوات الامنية هناك الحشد الشعبي المزود بالأسلحة الثقيلة، وهناك البشمركة الكردية التي هي جيش بكل ما في الكلمة من معنى، فله علمه الخاص وقيادته الخاصة واستراتيجياته الخاصة، ثم هناك قوى حزبية مسلحة، إلى جانب فلول داعش في مناطق متناثرة من العراق، وهو ما يعني أن كل قوة سياسية خلفها قوة عسكرية تسندها، وهو ما يجعل المواجهات والحروب الأهلية في قاعة الانتظار حتى صدور أمر الإقلاع لها.

 

 

4- الشخصية العراقية بين منظور الحجاج بن يوسف الثقفي عن الشقاق العراقي (مات أوائل القرن الثامن الميلادي) وبين منظور عالم الاجتماع العراقي على الوردي (مات أواخر القرن العشرين) عن ثنائية الشخصية العراقية بين البداوة والحضرية أو بين الصحراء والنهر، فالنظرة الأخلاقية للحجاج تساوقت مع النظرة الأنثروبولوجية للوردي، وها هو الواقع المعاش الآن يعزز هذا الاتساق.

 

 

ذلك يعني أن العراق “لن يستقر ” في المدى القصير والمتوسط، بل إن احتمالات الاضطراب طبقا للمؤشرات الكمية هي أقرب للتزايد منها للتراجع أو حتى الثبات، وقد تتمكن بعض النخب من لجم هذا المسار، إلا أن البنية الاجتماعية المعاصرة والشخصية التاريخية الراسخة قد يعاندا هذا النزوع الذي تتكاتف فيه القوى الإقليمية والدولية مع قوى محلية تستفيد من الواقع الراهن، لكن العراق كطائر الفينيق الإغريقي (أو الققنوس الفارسي) ينهض ثانية من رماد جسده المحترق.

 

 

أ. د. وليد عبد الحي*

* أ. د. وليد عبد الحي أستاذ في قسم العلوم السياسية وباحث في المستقبليات والاستشراف.

 

 

01-08-2022

 

 

المصدر

 

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments