استدامة المعرفة
إنّ أبرز ما ميُّز القرن الحادي والعشرين هو ظهور قوة المعرفة، وإن مفهوم إدارة المعرفة لم يعد يعني إدارة الرأسمال الفكري في إطاره المؤسسي فحسب، بل إنه تعدى ذلك إلى كونه قيمة مضافة، وإنّ من يحسن توظيفها وتطويقها يمتلك القوة، وبناءً على ذلك أصبحت تنمية الموارد البشرية والمحافظة عليها وتدريبها وتحفيزها ضرورةً هامةً في تعزيز القدرات الإنتاجية والتنافسية للمنظمات والمجتمعات، وإذا كان هدفُ الإدارات الإفادةَ المثلى من مواردها البشرية؛ فإنّ تشجيعهم ودفعهم للاجتهاد من خلال تهيئة المناخ المناسب للابتكار والإبداع أضحى أهم وظائف النظم المؤسسية العصرية في القرن الحالي، إنها إدارةٌ لأهم وأغلى الأصول وما يميزها عن باقي تلك الأصول أنها أصولٌ مفكرة.
ومن المفيـد التنبيـه لقضيـة ربمـا تكــون ليسـت بجديـدة على البعض، ولكنهـا غايـة في الخطـورة والأهميـة لمستقبـل النظـم المؤسسية، ألا وهـي احتمالات فقــدان الخبـراء أو العامليـن بما لديهـم مــن معرفـة ضمنية، نتيجـة التقـادم وتعاقـب الأجيـال وهجرة الكفاءات، وهذا بدوره يشكـل التحدي الأكبر الذي يستوجــب إعــادة اكتشـاف المعرفـة، فعلـى أقــل تقديـر يمكن اعتبار نصــف المعرفـة التنظيميـة معرفـة غيـر ظاهــرة أي ضمنية، وبالتالــي فهـي معرضة للفقـدان بمغــادرة أصحابهــا، وانّ عمليـة الإعـداد والتعليـم والتدريـب (الرأسمالِ البشـري) تستغـرقُ سَنَـواتَ، وفي هذا المنعطف الحرج يتضح أهم تحديات إدارة المعرفة على البيئة العربية، والتي تكمن في افتقارها للرأسمال البشري نتيجة أزمة هجرة كفاءتها بسبب نقص جديـة استثمارها للموارد البشرية بصورة مستدامة من جهة، وإحكام سيطرة الدول المتقدمة على حقوق الملكية الفردية في ظل العولمة من جهة ثانية، إضافة لضعف اهتمامها بالتوثيق كذاكرة تنظيمية مما يجعل النظم المؤسسية تواجه خطراً كبيراً نتيجةَ فقدانها الكثير من المعرفة التي يحملها الأفراد الذين يغادرونها لسبب أو لآخر باعتبار أنّ المعرفة قابلة للتلف والتقادم، وإنّ عمرَ الخبرة محدودٌ بسبب التقنيات المتجددة، فلا يمكن اقتصار المعرفة على فئة محددة بل ينبغي على كافة الأفراد بالنظم المؤسسية أن يجددوا معلوماتهم بصورة دائمة، ولعل في هذا ما يؤكد على أهمية ضرورة التقاسم والتشارك في المعرفة كأحد عمليات إدارة المعرفة الرئيسة، وعن طريق التوثيق يمكن السيطرة على المعرفة (الظاهرة) التي هي في صورة أوعية رقمية أو ورقية بعد تهيئتها بطبيعة الحال، وعن طريق التحاور وبرامج التدريب والتعليم المستمرين يتم التحكم في نمط المعرفة (الضمنية) وترجمتها لمعلومات وتجسيدها في ممارسات عملية وفـق أجواءٍ تنظيمية مناسبة بما ينعكس إيجاباً على تحسين الأداء المؤسسي. وقد أوضحت نتائج إحدى الدراسات الاجنبية أنّ المؤسسات التي تملك مستوياتٍ عالية من الثقة أكثرُ نجاحاً في مبادرات إدارة معرفتها من تلك ذات المستوى المنخفض من الثقة، بالتالي فان الثقة ضمن نسق الثقافة التنظيمية يمكن استخدمها كمؤشر لقياس احتمالية زيادة فرص نجاح مبادرات إدارة المعرفة والتقليل من نسبة المخاطرة، لذا من أجل التميز والنجاح لابدّ من جعل الهدف الأسمى تطويع الفكر والعمل، وهذا يعتبر حجر أساس نجاح النظم المؤسسية في إيجاد ثقةٍ عاليةٍ تمكن من التشارك والتقاسم المعرفي بشكل يخلق القيمة المعرفية، وبما يهيئ لتبادل المهارات والخبرات والآراء بين الخبراء القياديين والصف الثاني، الأمر الذي يؤثر تأثيراً ايجابياً على طبيعة الأداء نحو التحسين والكفاءة، وخلق قياداتٍ جديدةٍ والتي بدورها تؤدي إلى تحقيق التقدم الاقتصادي.
ومن الجدير بالذكر أنّ هناك رؤىً مختلفة للمعرفة تنعكس بطبيعتها على مداخل إدارتها، ويمكن التمييز في هذا الإطار بين أربعة مداخل: أولها مدخل اقتصادي يجعل من إدارة المعرفة مرادفاً للرأسمال الفكري أو اعتبارها أحد عناصره، وينطلق المدخل الثاني من كون المعرفة بنياناً اجتماعياً، وينظر المدخل الثالث إلى المعرفة كشيءِ يمكن تخزينه وتصنيفه وتداوله باستخدام تقنيات المعلومات، أما المدخل الرابع فهو مدخل إداري يركز على إدارة المعرفة باعتبارها مجموعة من العمليات والإجراءات، واذا ما اتفقنا جدلاً على أنّ إدارة المعرفة مرادفٌ للرأسمال الفكري؛ فهي النشاط المرتبط باستراتيجيات وتكتيكات إدارة الرأسمال الفكري، وإدارة الأصول التي تستخدمها النظم المؤسسية بكامل إمكانياتها، لذا فانّ المجتمعات تدخل مرحلة مجتمع المعرفة الذي لم يعد فيه الفرد هو المورد الاقتصادي الأساسي بل المعرفة التي يمكن تحويلها إلى رأسمال متكوّن من الأصول غير الملموسة التي لا تظهر في الميزانية والتي يمكن أن تشمل مهارات العاملين والمعلومات وحقوق الملكية والاستخدام الابتكاري للأصول.
إزاء ذلك يُفترض أن تتولى إدارة المعرفة التركيز على العقل التنظيمي بمفهومه الشمولي الذي يضمن توزيع المعرفة من عقلٍ لآخر، وتحويل الأفكار والخبرات إلى معرفةٍ عمليةٍ وفق نشاطٍ جماعي يؤسس للإبداع، ولعل في هذا المنعطف الحرج يتعين على النظم المؤسسية تقليل الحيرة والإرباك في مسألة التفريق بين الكلف التي تدفعها وبين القيمة المتأتية من الاستثمار فيها، بما يحقق لها إضافة القيمة لنجاحاتها، لأن الرأسمال البشري يعتبر الحاضنة الأساسية للإبداع المعرفي، لذا فإنّ المطلب الرئيسي لتطبيق إدارة المعرفة في تنمية القيادات الإدارية ينحصر في مشاركة الصف الثاني والثالث للأفكار وجعلها جزءاً من الذاكرة التنظيمية، مع العمل على رعاية تلك الأفكار وتنميتها لتكون بمثابة الرأسمال الفكري للمؤسسة، وهذا لا يتسنى إلا من خلال تدفق وانسياب المعلومات والمعرفة وتحويلها من ضمنية الى صريحة والعكس، من خلال عملية التجريب والتدريب مع تهيئة المناخ التنظيمي الداعم لممارسات إدارة المعرفة.
لاشك ان الرؤية الاستشرافية الواضحة من شأنها صياغة أهداف واضحة، الأمر الذي يدفعها نحو التغيير المطلوب، وذلك يعنى بالضرورة أنّ نظام القيم يحدد أنماط المعرفة المطلوبة المرتبطة بالأهداف التى تسعى المنظمات لتحقيقها، وتمثل كل من الثقـة والشفافيـة أهـــم القيم التي تدعم التدفق الفعال للمعرفة ، وتعتبر الثقافة التنظيمية الحاضنة الأساسية للمعرفة وانطلاقها ونموها، فإذا توفرت المؤثرات الإيجابية في ثقافة النظام المؤسسي تجاه أفراده؛ أسفر ذلك تقديم أفكارِ مبدعة وخلاقة والتي بدورها تؤدي إلى نموها وتميزها، كما أن الهيكل التنظيمي يرتبط بعناصر أخرى مثل السياسات والعمليات ونظم الحوافز والمكافآت وغيرها مما قد تدعم برامج إدارة المعرفة أو تكون عقبةً في سبيلها.
إن إدارة المعرفة تُعنى بالصورة الأشمل لمفهوم المعرفة كأصل من الأصول التي تمتلكها المنظمة؛ وبالتالي فإن القدرة على إدارتها بكفاءة من حيث اقتنائها واغتنامها وتنظيمها وإتاحتها والمشاركة فيها وتنميتها، يشكل تحدياً لقدرة المنظمات على المنافسة في عصر المعرفة؛ حيث الفشل في هذا السياق يعنى مغادرة ميدان المنافسة والنجاح يعنى تحقيق تنافسية مستدامة، فليس هناك أثمن من المعرفة والخبرة الموجودة في عقول الموظفين ومصادر المعرفة الأخرى في المنظمة، ولكنّ كثيراً من المنظمات والمؤسسات فشلت في إدارة معارفها، وذلك لأنها تعتقد أن إدارة المعرفة برنامج يُشترى مثل برامج إدارة المعلومات، ولم تفهم وتربط وتوظف القوة المعرفية بأنواعها وأدواتها لخدمة الاستراتيجيات والأهداف الأساسية لها، فبقيت مصدراً ميتاً، لذا وجب على الشركات والمؤسسات الاهتمام بالمعرفة التي تملكها، وقد تكون في عقول موظفيها أو في فضاء معلوماتها وبياناتها غير المركبة، والتي لا تعطي أي معنى إلا لكاتبها أو المختص فيها، وقد يُضيّع وقتٌ وجهدٌ كبيرٌ في ربطها وتحويلها إلى ما يُراد معرفته منها، وذلك للتوصل لنتائجَ ودلالاتٍ تساعد في اتخاذ القرار وتقديم الحلول.