الأدب واستشراف المستقبل.. بين رؤى الواقع والخيال

الأدب واستشراف المستقبل.. بين رؤى الواقع والخيال

2023-08-26 2:43 ص

الأدب واستشراف المستقبل.. بين رؤى الواقع والخيال

 

حياة ممتلئة بالغرائب والأهوال، ومعيشة تتقلب بين الرغد والضنك، كل ذلك كان هاجسًا دفع الإنسان إلى استشراف المستقبل وتوقع أحداثه في النفوس، وميلًا غريزيًا في كثير من الأحيان تحول مع الوقت إلى علم مستقلّ بذاته.

 

والأدباء بما فطروا عليه من رؤية استشرافية عالجوا المستقبل بمنظورهم الخاص بين رؤية واقعية ورؤية محلّقة في الخيال، وحلم يمدّ أصابعه للمستحيل. رؤية واقعية للمستقبل

 

فمن الأدباء من نظر إلى المستقبل رؤية واقعية، تنبع من معطيات الواقع المحسوس، وتفيد من خبرات الماضي، وتربط خيوط الأحداث بعضها ببعض لتخرج برؤية عامة تتنبّأ بما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيّام، فالواقع العربي المثقل بالنكسات والنكبات دفع الأديب إلى محاولة فهم ذلك الواقع، ورسم خطوط عامة للمستقبل بإدراكه العلاقة الوثيقة بين أحداث الماضي والحاضر، وصلتها بالمستقبل المنتظر، فوجدوا بلادًا منكوبة بالحروب والفتن والخلافات المستعصية، يغلفها ستار من الجهل الذي يعضده حكم أجنبي استمرّ لقرون وخلف وراءه فئة من الحكام المستبدين.

 

ذلك الواقع المأزوم جعل الشاعر المتمرّد أمل دنقل يستشرف مستقبلًا مملوءًا بالهزائم باستحضار قصة زرقاء اليمامة من التاريخ وإسقاطها على الحاضر العربي، وذلك في قوله على لسان المقاتل الذي يمثل الشاعر وكل العرب:

أيّتها العرّافة المقدّسة

جئت إليك مثخنًا بالطعنات والدماء

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف مغبّر الجبين والأعضاء

 

وبما أنّ الواقع كان محتقنًا إلى درجة شديدة الْخَطَر فقد استشرف الأدباء تخلّي المسؤولين عن واجباتهم ومتاجرتهم بقضايا الشعب، فتلك الدمى التي خلّفها الحكم الاستعماري لتمارس الحكم بالقبضة الحديدية على الشعب، وتكون خائرة القوى أمام العدو الخارجي لم يكن في مقدورها ممارسة دور الحامي للبلاد وأهلها، فهي هزيلة القوى، ومعزولة عن حاضنتها الاجتماعية، فهم لا يسمعون إلا أنفسهم، ويحلو لهم التذلل لأعدائهم حفاظًا على مكتسباتهم الخاصة، والثمن دائمًا الشعب وحريته وكرامته ودماء أبنائه.

 

هذا ما نجده لدى أمل دنقل الذي عبر عن حالة الإحباط من قادة صمّ أمام رأي الناصحين وجبناء ومتاجرين بالشعب مع المعتدين، وقد رسم صورتهم القبيحة بقوله:

قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار

فاستضحكوا من وهمك الثرثار

وحين فوجئوا بحدّ السيف قايضوا بنا والتمسوا النجاة والفرار

 

ولم يكتف الأديب العربي بتلك النظرة الواقعية لما فيها من بقع السواد، بل راح يحلم ببلد مثالي يحقق له الراحة والأمان، ويمنحه الحرية التي طالما بحث عنها، وناضل للوصول إليها…

 

فالبلاد العربية التي عاشت مأساة النكبة، وهزيمة فلسطين، وكان الإنسان العربي تائهًا فيها من المحيط إلى الخليج في بحور من الجهل والتخلف الاجتماعي والحضاري، والعجز الاقتصادي فكان الملجأ هو الحلم والخيال الذي راح يمدّ يده للوصول إلى وطن حرّ تملأ أنوار حريته الكون، ويجذب ببهائه النفوس التي راحت تتوق إلى الوصول إليه…

 

الرؤية الحالمة للمستقبل

وخير من يمثل تلك الرؤية الحالمة الشاعرة نازك الملائكة التي عاشت معاناة المرأة العربية من التخلف والضياع، وحملت الحلم بوطن حر على عاتقها وراحت ترسمه وطنًا فائق الجمال، مطلق الحرية، هانئًا بالسلام والأمان في قولها:

تخيّلته بلدًا من عبير على أفق حرت في سرّه

هنالك حيث تذوب القيود وينطلق الفكر من أسره

 

ولم يقف الأديب العربي عند رسم معالم الحلم بالبلد المثالي، بل أظهر تمسكه بالحلم للوصول إلى ذلك البلد، فسوء الواقع واستحكامُ اليأس على النفوس من القدرة على تغييره جعل الإنسان العربي يتمسك بحبال الأمل، ويرى فيها طوق النجاة من بحر اليأس الذي غمر النفوس، فكانت الأيدي تمتدّ للوصول إلى ذلك الضباب البعيد، والحلم الذي لا زمان يحده، ولا مكان يحتويه.

 

هذا ما دفع نازك الملائكة إلى اللجوء إلى الأماني والتمسك بها للوصول إلى ذلك البلد الموعود، والفردوس المفقود، فقالت:

سأبقى تجاذبني الأمنيات إلى الأفق السرمدي البعيد

وأحلم أحلم لا أستفيق إلّا لأحلم حلمًا جديد

وحين أموت، أموت وقلبي على موعد مع يوتوبيا

 

وإضافة إلى ذلك فقد اتّجه بعض الأدباء إلى استشراف المستقبل بالخيال المشفوع بالعلم، فالخيال العلمي هو الزناد الذي يقدح نار الفكر والاختراع، ويجعل الأحلام حقيقة واقعة، وذلك لأنه ينطلق من حدود العلم وحوافّه، مستندًا إلى آخر ما وصل إليه العلم، فاتحًا الطريق أمام الخيال البشري للتحليق بعيدًا عن حدود التجربة العلميّة البحتة وشروطها القاسية، محرّضًا العلماء على البحث والتجريب للوصول إلى مخترعات حديثة.

 

استشراف المستقبل بالخيال المشفوع بالعلم

وليس بعيدًا عن ذلك ما نراه في كتابات أنطون ميخائيل الصقال الذي استشرف قدرة الإنسان على العيش في كوكب الزهرة والوصول إلى مخترعات غير موجودة في زمانه، فقد قال: «قال والدي: الآلات والأدوات عندنا كثيرة وكلها مفيدة إفادة عموميّة، أذكر لك شيئًا منها:

 

المركبات النورية: وهي مركبات تسير وتسري في الهواء بسرعة النور، وتمرّ قطرًا بعضها وراء بعض، نسافر بها، وننقل كلّ شيء وهي غير معرّضة لخطر، وسمّيت بالنّوريّة نسبة إلى النور الذي نستخدمه كما تستخدمون الكهرباء».

 

وهكذا فإنّنا نجد أنّ الأدب العربيّ قد عالج موضوع الاستشراف انطلاقًا من كونه موضوعًا متصلًا بحياة الإنسان العربي، وكان تناول الأدباء له نابعًا من ظروفهم، ورؤيتهم للحياة، فمنهم من رأى في أحداث الواقع ملهمةً له لاستشراف أحداث المستقبل، في حين لجأ آخرون إلى الحلم ببلد مثالي، وتمسكوا بالحلم للوصول إليه، في حين نجد بعضهم يمزج بين العلم والخيال.

 

المصدر

1.5 2 votes
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments