الصراعات المعلقة: النموذج المستقبلي لأوكرانيا | أ. د. وليد عبد الحي

الصراعات المعلقة: النموذج المستقبلي لأوكرانيا | أ. د. وليد عبد الحي

2023-09-01 11:57 م

الصراعات المعلقة: النموذج المستقبلي لأوكرانيا | أ. د. وليد عبد الحي

 

يشير القياس الكمي لعدد الحروب الدولية بين 1950 إلى 2023 أن 74 حرباً دولية اشتعلت في مناطق متفرقة من العالم، أي إن المعدل السنوي هو أن هناك حرباً واحدة كل عام (سواء حرباً جديدة أو استمرار لحرب قائمة)، لكن الملاحظ أن الحروب بين الدول تتناقص بينما الحروب داخل الدول تتزايد ولو بوتيرة بطيئة، كما أن الحروب الداخلية تتحول أحياناً إلى دولية، وعند النظر في أشكال تسويات هذه النزاعات بخاصة الكبرى منها والممتدة (Protracted)، يتبين أن عدد النزاعات التي تنتهي بوقف إطلاق النار دون حسم الصراع يتزايد بشكل واضح، فمنذ عام 2010 تزايد عدد النزاعات التي تم الاتفاق فيها على وقف إطلاق النار “لأسباب إنسانية” بشكل واضح، لكن عدد النزاعات من ناحية أخرى تزايد بخاصة في الفترة من 2015 إلى 2019، حيث وصل النزاعات في هذه السنة إلى 54 منها 35 نزاعاً داخل الدول. (طبعا يتم حساب النزاع الجديد والممتد كل سنة).

 

وصحيح أن كل نزاع دولي (داخلي أو خارجي) له خصوصياته، لكن الاتجاه العام يشير إلى أن تحقيق انتصارات واضحة لا لبس فيها يتراجع بشكل واضح، وأصبح تعريف الانتصار ملتبساً إلى حد بعيد، فمثلا من انتصر في كل عواصف ما سمي بالربيع العربي؟ من انتصر في أفغانستان أو العراق أو الصراع على تايوان أو صراع أرمينيا وأذربيجان أو …إلخ، وهو ما يعني: أن الانتصار الباهر والواضح في الصراعات بخاصة التي يكون أحد أطرافها قوة عظمى أصبح أمرا ملتبساً.

 

إن التذرع بالعوامل الانسانية لوقف إطلاق النار هو إقرار بعدم جدوى استمرار القتال لأن النصر لا يلوح في الأفق.

من جانب آخر، فإن الترابط الاقتصادي والتقني إلى حد أن 38% من تجارة العالم هي عبر إقليمية، وأن العقوبات الاقتصادية أصبحت تؤذي طرفي الصراع (الشركات الأوروبية التي غادرت روسيا بسبب الحصار خسرت منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية حوالي مائة مليار دولار)، وهو ما حول النزاعات الدولية من “نزاعات صفرية” إلى نزاعات “غير صفرية” في معظمها، فكيف للولايات المتحدة أن تحارب الصين من ناحية وهي شريكها التجاري الأول من ناحية ثانية؟ كيف لها أن تحارب روسيا وهي تعلم حاجة العالم لقمحها ومخاطر الحرب النووية وضغوط النتائج العكسية للحصار على اقتصادها ذاته؟ هنا يتجلى المنظور الصفري للصراعات الدولية، والتي بحكم بنيتها لا توصل لنصر حاسم في الغالب.

 

لذلك، يبدو لي (إذا استبعدنا طبعاً المتغير قليل الاحتمال عظيم التأثير أو البجعة السوداء) أن الحرب الروسية الأوكرانية تسير في اتجاه “وقف إطلاق النار” كخطوة أولى تقترحها أغلب الأطراف الساعية للوساطة، وقد يتم استخدام الاعتبارات الإنسانية (القمح، و14 مليون أوكراني مهاجر أو نازح، وقسوة الظروف الحياتية بخاصة في أوكرانيا التي تراجع إجمالي ناتجها المحلي خلال عام ونصف بمعدل 33%، إضافة إلى أن حوالي 40% من محطات توليد الطاقة في أوكرانيا أصبحت خارج الخدمة، ناهيك عن تدمير واسع النطاق في الموانئ والمطارات والسكك الحديدة والمصانع ومراكز التموين وتخزين الحبوب بل وشلل النقل البحري.

 

وما يعزز هذا الاحتمال، أن الآمال الأوكرانية في زحزحة ذات دلالة للجيش الروسي من المناطق التي سيطر عليها تراجعت بشكل كبير بخاصة بعد أن تبين أن الروس استغلوا تلكؤ الأوكرانيين في الهجوم لتدعيم وتحصين مواقعهم التي رابطوا فيها، بل أن الروس يحققون بعض النهش في بعض المواقع الأوكرانية الجديدة، بخاصة أن توزيع القوات الأوكرانية أصبح مشكلة لا سيما وأن طول الجبهة بين الطرفين يتجاوز الألف كم امتداداً.

 

لكن الحساب الروسي أيضاً اعتوره بعض الخلل، فبعد صد الهجوم على كييف من قبل الأوكرانيين في مارس 2022، استعاد الأوكرانيون حوالي 3 آلاف كم2 في سبتمبر تلاها نكسة خيرسون بعد ذلك بشهرين، لكن يبدو أن ذلك هو أقصى ما يستطيعه الأوكرانيون مهما تدفقت عليهم المساعدات والأسلحة.

 

ويبدو أن المراهنة الغربية على إنهاك الاقتصاد الروسي عبر سلسلة إجراءات الحصار كانت متواضعة الآثار وبشكل واضح قياساً للنتائج المتوخاة، فمعدل النمو وأسعار الروبل وحجم التجارة بقي قادراً على رفد ساحة المعركة، بل إن الصدمة الدبلوماسية التي واجهتها روسيا في البداية بدأت تذوي تدريجياً، كما أن الموقف الاوروبي بدأ يميل للتثاؤب من إيقاع الأزمة الأوكرانية، كما أن الفرح الطفولي الذي غمر بعض الدوائر الغربية عند بروز الأزمة بين الحكومة الروسية ومجموعة فاغنر انتهى لخيبة أمل إلى الحد الذي شعر البعض أن ظلال العقل المخابراتي لبوتين يُطل من نسيج هذه العملية.

 

لكن المشهد الروسي ليس وردياً في كل جوانبه، فالخسائر البشرية في القوات الروسية -رغم تباين كبير في تقديرها- مرتفعة حتى في أقلها تقديراً، بل إن الخروقات للمياه الاقليمية والأجواء الروسية من قبل المسيرات الأوكرانية إلى حد الوصول للكرملين بدأ يلقي بظلاله على بعض “النزق الروسي”.

 

ماذا يعني ذلك:

1- إن وقف إطلاق النار هو الخطوة القادمة الأرجح، لأنها هي نقطة البداية في كل المبادرات المطروحة صينياً أو افريقياً أو حتى تركياً وسعودياً، وهذه الخطوة تمثل نقطة مهمة لروسيا لتثبيت وجودها وتعزيزه والذي لن تتراجع عنه مهما اقتضت الظروف، وستراهن روسيا على الامتصاص التدريجي للموقف الأوكراني واحتمالات التغير الداخلي، بينما قد يجد زيلينسكي نفسه أمام ضغوط متتالية أوروبيا وأمريكيا بل وداخليا للحفاظ على ما تبقى على أقل تقدير، أو لكي لا يظهر بأنه هو من يعطل التسوية السلمية التي لا بد أن يتم البدء بها.

 

2- بعد القرار بقرار وقف أطلاق النار (وقد يتخلل ذلك بعض المماحكات بين الطرفين) قد يتم الدخول في مفاوضات وإقرار تدريجي وتجميلي بالحدود الجديدة (في المناطق الأوكرانية في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون إضافة للقرم) وقد يتكرر نموذج التقسيم الذي عرفته كوريا بعد حرب 1950-1953 عند خط عرض 38 (خط هيوجيونسون) أو نموذج تايوان مع الصين أو ما يجري في فلسطين، ويصبح المؤقت دائماً، وهو ما اسميناه الصراعات المعلقة أي التي لم تحل ولكنها معلقة…ربما.

 

 

أ. د. وليد عبد الحي*

* أ. د. وليد عبد الحي أستاذ في قسم العلوم السياسية وباحث في المستقبليات والاستشراف.

 

المصدر

2 1 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments