سيناريو المواجهة الإيرانية الإسرائيلية | أ. د. وليد عبد الحي
رغم الحرص الإيراني الأمريكي منذ نشوب معركة طوفان الأقصى على تكرار رغبة كل منهما “بعدم التصعيد”، إلا أن المشهد أصبح مربكاً بشكل واضح لمعظم الخبراء والباحثين بل وصناع القرار أنفسهم، ومع ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية من تحقيق إسرائيل ضربات “نوعية” بخاصة ضد أهداف بدت منذ فترة طويلة بأنها مستعصية على الاختراق الأمني، والتي تمثلت في مسلسل الاغتيالات الناجحة في طهران وبيروت وكانت الأكثر وهجاً بل وشكلت استفزازاً لعقل ووجدان أطراف محور المقاومة وجماهير هذا المحور… وهو ما دفع إيران لهجومها الأخير على إسرائيل والذي تبين أن نتائجه كانت أكبر مما ادعى الناطق الإسرائيلي وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والتلاميذ العرب من مدرسة راند كوربوريشين.. وهو ما تبين من تفحص صور الأقمار الصناعية وتحقيقات عدد من المؤسسات الإعلامية الغربية.
وأعقب الهجوم الإيراني تصريحات إسرائيلية متتالية حول “حتمية الرد” يرافقه تهديد إيراني بأن الرد الإسرائيلي سيواجه برد إيراني أقسى من الأول، وهو ما يشير إلى أن الدفع نحو مواجهات أخرى ما زال يفوق معوقات هذا الدفع.
التساؤل المركزي هو: ما هي متغيرات إعاقة التصاعد السابق؟ وما هي محفزاته وما هو المسار المحتمل؟
أولاً: المعوقات:
أ- رغبة أمريكية في لجم التصاعد ليبقى في حدود لا يتجاوزه لأسباب عدة منها:
1- إن المرشحيّن للانتخابات الرئاسية لا يريدا أن تدور الانتخابات في ظروف غير عادية ولا تؤدي لخلق التزامات أمريكية عاجلة واتخاذ قرارات قد تكون متسرعة بخاصة في مرحلة انتقالية في مؤسسة الرئاسة لا سيما أن الراي العام الأمريكي يعرف “بعض التغير” في مواقفه التقليدية تجاه إسرائيل.
2- إن النظرة الأمريكية الاستراتيجية ترى أن يبقى التركيز على جبهتين أخريين هما أوكرانيا وتايوان، ولعل الانشغال الأمريكي في أزمة قد تمتد طويلاً في الشرق الاوسط يمنح خصومها فرصة في هاتين الجبهتين لا يمكن استبعاد اقتناصهما لها.
3- إن اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة كمورد أول للنفط لها سيزداد إذا تعطل النقل في الخليج العربي، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع الاسعار في السوق الأمريكية والتأثير على المخزون الاستراتيجي فيها.
ب- تدرك دول الخليج العربي بأن اتساع المواجهة مع إيران وحلفائها قد يمتد إلى أراضيها في ظل التواجد الأمريكي العسكري في هذه الدول واحتمال مشاركة هذا الوجود الأمريكي العسكري في المواجهة، ونظراً لهشاشة المجتمعات الخليجية، والتكلفة الهائلة لبنيتها التحتية وهو ما اتضح خلال الحرب مع اليمن، فقد تسعى هذه الدول بصمت إلى محاولة العمل على تجنب التصعيد قدر ما تستطيع رغم محدودية هذه القدرة.
ت- ان اشتعال المواجهة الإقليمية يتضمن مخاطر ضرب المنشآت النفطية، بل وإغلاق مضيقي هرمز وباب المندب حيث يعبر 20% من الطاقة العالمية، ناهيك عن الاضطراب التام في النقل البحري والتجارة الآسيوية الأوروبية، وهو ما يوقع ضرراً كبيراً لكل أوروبا التي تعاني من انقطاع الإمداد الروسي لأغلب دولها وبنسبة تصل إلى 82%، مما دفعها لمزيد من الاعتماد على منطقة الخليج والشمال الإفريقي، وقد تؤدي الأحداث إلى ارتفاع الاسعار للطاقة (البترول والغاز)، ويكفي أن نعرف أن نفقات أوروبا على الطاقة في العام الماضي وصلت إلى 349.58 مليار دولار، وخلال الربع الأول من هذا العام وصلت إلى 44.85 مليار دولار، مع ملاحظة أن الحاجة الأوروبية للنفط تزايدت في العام الماضي 7.7%.
ذلك يعني أن أوروبا ليست في وضع يدفعها لمساندة التصعيد نظراً للآثار الاقتصادية، لكن ذلك لا يخفي هماً آخر للأوروبيين وهو احتمال تدفق المهاجرين لها مرة أخرى إذا ذهب التصعيد نحو الشطط، وهو أمر بدأ الأوروبيون يتحسسون أوزاره استناداً لخبراتهم خلال عقد الاضطراب العربي الماضي.
ث- القلق الصيني من عدة زوايا، الاعتماد الكبير على النفط من دول الخليج واحتمالات انقطاعه او ارتفاع أسعاره، وفي كلٍ شر مستطير، فهي تعتمد بما يفوق 50% من حاجاتها النفطية على دول الخليج، كما أن مشروعها “الحزام والطريق” قد يتلكأ كثيراً في حالة تحول المنطقة لساحة حرب، مما يجعلها تعمل على لجم التصعيد.
ج- قد تكون مصر من أكثر المتضررين من التصعيد نظراً لزيادة خسارتها من مورد أساسي هو قناة السويس والتي تجاوز حتى الآن 7 مليار دولار، ناهيك عن تعثر السياحة، وتعد السياحة والقناة من الموارد الأساسية للخزينة المصرية، وقد يؤثر التصاعد وانتشاره إلى عودة أعداد كبيرة من المصريين العاملين في الخليج على غرار ما جرى في حرب الخليج الثانية.
ح- الرأي العام العالمي: رغم التأثير النسبي والمتواضع لهذا المتغير بخاصة في لحظة الأزمة إلا أنه لا يجوز إغفاله، ويكفي الإشارة إلى أن بعض الاستطلاعات الأخيرة أشارت إلى أن شعبية إسرائيل تراجعت في كل دول العالم باستثناء الولايات المتحدة التي ما زالت الغالبية من شعبها على موقفه رغم بعض التراجع فيه.
ثانياً: أما عوامل الدفع نحو المواجهة:
وتبدو هذه العوامل أضيق مساحة لكنها أقرب -في بعض ملامحها- لصنع القرار مباشرة، ويكفي التأمل في الآتي:
أ- يبدو أن اليمين الحاكم في إسرائيل يميل إلى ضرورة “حسم المعركة” بعد إدراكه أن التطبيع مع العالم العربي لم يجلب إلا غبطة عابرة، وأن انتقال المعركة إلى أيدي قوى شعبية يجعل إدارة المعركة أكثر تعقيداً، وعليه لا بد من الحسم في هذه المرحلة، وقد تكون بعض النجاحات في الضربات الأمنية المتلاحقة عوامل تعزز غواية هذه الاستراتيجية اليمينية للتصعيد بخاصة أن النظام العربي الرسمي لم يبد أي تحد جدي لنزعة التصعيد الإسرائيلية.
ب- تراجع كبير في قوى الاعتدال الإسرائيلي، فحزب العمل (بتسمياته المتعددة عبر التاريخ الإسرائيلي المعاصر) سيطر على الحكم في إسرائيل من 1948 إلى 1977، لكنه الآن لا يمتلك إلا أربعة مقاعد من 120 مقعداً، وإذا كان إسحاق رابين قد فهم استراتيجية إسرائيل الكبرى على أنها “الكبرى اقتصادياً” فإن اليمين الحاكم لا يراها إلا “الكبرى أمنيا”، أي إن أمن الدولة يعلو على أمن النظام وأمن المجتمع، وأن شعار جابوتنسكي بأن التاريخ تصنعه الأحذية الثقيلة هو استراتيجية ناجحة من منظور هذا اليمين، فالعرب لم يطبعوا مع إسرائيل إلا بعد تمريغ نظمهم وجيوشهم في وحل الهزائم واختراق مجتمعاتهم وتمزيق بنياتهم الاجتماعية.
ت- وثمة عامل لا يجوز تجاوزه وهو الدعم المؤكد من التيار المسيحي الصهيوني (الإنجليكان) الذين يؤمنون من الناحية الدينية أن تجميع يهود العالم في “أرض الميعاد” هو البشارة بعودة المسيح، والملاحظ أن هذا التيار له وزنه الهام في الولايات المتحدة بل وبدأ يتمدد في أمريكا اللاتينية، ولعل وجود ممثلين أقوياء له في دوائر صنع القرار الأمريكي يعزز نزعة التصعيد.
ث- نزعات قوى غربية وغير غربية لاجتثاث الإسلام السياسي بالقوة، فإلى جانب تيارات أمريكية وأوروبية هناك دول أخرى لا ترى ضيرا من مساندة إسرائيل في اجتثاث هذا التيار بخاصة أن مركزه في الشرق الاوسط، فدول مثل الهند وأذربيجان وبعض دول آسيا الوسطى وإفريقيا وأمريكا اللاتينية (كالأرجنتين) تساند هذا التوجه، ناهيك عن رغبة لأنظمة سياسية عربية لا تقل توقاً عن نيتنياهو في اجتثاث هذا التيار، بل ومعها بعض الشركات الأمنية الخاصة والتي يرتبط الكثير منها بإسرائيل وبقوى سياسية غربية من الذي يعتبرون النظرية الواقعية هي هاديهم للطريق الصحيح في إدارة العلاقات الدولية.
ج- من غير الممكن غض الطرف عن دور المجمعات العسكرية الصناعية في الدول الرأسمالية التي تعد الحروب مصدر ربحها الأول، ويكاد المجمع العسكري الصناعي الأمريكي هو الأبرز في هذا الاتجاه، وهو ما يدفعه إلى الدفع باتجاه مزيد من الحروب وبالتالي مزيد من مبيعات السلاح، واشتعال الحرب في الشرق الأوسط هو فرصة ذهبية لهذا المجمع الذي له نفوذه وجماعات ضغطه في كل دوائر صناعة القرار الأمريكي.
سيناريو الموازنة:
يبدو أن العرض السابق يشير إلى رجحان كفة الضبط على الانفلات، لكن ذلك قد يدفع باتجاه تأثير متغيرات الانفلات على الضبط باتجاه “انفلات مرسوم” ، أي السماح بالتصاعد لفترة معينة، فإذا تمكن أحد الأطراف من الحسم (كما جرى في حرب 1967 بين العرب وإسرائيل) فبها وَنِعْمَتْ، ولكن إذا تحول الصراع إلى النوع الممتد، فقد تتجه المساعي لإيجاد تسوية لوقف إطلاق النار وتسوية بعض القضايا بقدر يخفف من بيئة التصعيد إلى حين… لكن دون تسوية دائمة، وهو ما قد يفتح المجال أمام تحولات في بعض النظم السياسية في المنطقة، ولن تكون إسرائيل بمنأى عن ذلك.
وثمة عامل آخر قد يساهم في سيناريو الانفلات المرسوم وهو الثمن الذي سيدفعه كل طرف في حالة الذهاب بالتصعيد لحدوده القصوى، فالأهداف الإيرانية التي يمكن أن تركز عليها إسرائيل كالبنية التحتية لكل صناعاتها النفطية والعسكرية (نووية أو غير نووية) وبعض مراكزها العلمية البحثية ناهيك عن المطارات والموانئ تشكل العمود الفقري للدولة الإيرانية، وكل هذه الأهداف معروفة لإسرائيل بشكل كبير، لكن إسرائيل ورغم سعة مروحة الأهداف التي يمكن أن تكون هدفاً للإيرانيين، فإن العنصر البشري يمثل كعب أخيل في الجسد الإسرائيلي لا سيما وأن إسرائيل تعيش في حالة إرهاق بسبب طول المواجهة الحالية التي لم تعهد مثلها مسبقاً، كما أن المساحة الإيرانية (مليون 648 ألف كيلو متر مربع) يجعل القدرة على الوصول لأهداف متباعدة أكثر تعقيداً (فبنية برنامجها النووي تتوزع على مواقع التخصيب لليورانيوم، مواقع المفاعلات النووية، ومناجم اليورانيوم، ثم مراكز الأبحاث، لكن المسافات بين مرافق هذه البنية (وهي أكثر من 12 موقعاً) تتراوح بين 30 إلى 300 كيلو متر عن العاصمة طهران، كما أن تقارير وكالة الطاقة النووية التي تمارس التفتيش على بعض هذه المرافق تشير إلى أن بعضها محصن بشكل ملفت بخاصة في إنفاق داخل سلاسل جبلية معقدة، أما العبء البشري فإيران يصل عدد سكانها إلى قرابة 90 مليون نسمة أي ما يعادل أكثر من عشرة أضعاف عدد اليهود في إسرائيل، وهو ما يعني أن الضغط الإيراني على العنصر البشري الإسرائيلي قد يكون هو الأكثر وطأة بالقدر الذي يجبر إسرائيل على عدم الخروج عن استراتيجية الانفلات المرسوم، ومعلوم أن أكثر من 91.3% من سكان إسرائيل يعيشون في مدن، مما يجعل الكثافة السكانية عالية جداً تصل إلى ألف ومائة و ثلاثة وعشرين نسمة في الميل المربع الواحد….
فهل يكون الانفلات المرسوم هو الخيار الأفضل لطرفي الصراع ويحقق توازناً بين معوقات التصعيد ومحفزاته.. إن غداً لناظره قريب.
أ. د. وليد عبد الحي*
06/10/2024
*خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.