أدباء وعلماء مستقبليون (سلسلة "مستقبليات") | أ. د. أحمد أبوزيد

أدباء وعلماء مستقبليون (سلسلة “مستقبليات”) | أ. د. أحمد أبوزيد

2019-09-27 2:00 ص

أدباء وعلماء مستقبليون (سلسلة “مستقبليات”) | أ. د. أحمد أبوزيد

 

تزخر الكتابات المستقبلية بأسماء عدد كبير من الكتاب والمفكرين الذين يصعب تصنيفهم لأنهم يجمعون في كتابتهم وإعدادهم الذهني بين مجالات متنوعة من التخصص إلى جانب الخيال العلمي الواسع والقدرة على العرض المشوق وعلى القص والحكي في أسلوب أدبي يسمح لهم بارتياد مجالات من التصورات والعوالم التي قد لا توجد في الواقع المعيش، ولكن يمكن أن تتحقق في المستقبل القريب أو البعيد نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي وإمكانات العقل الإنساني على الخلق والإبداع بغير حدود، لكن هذا الخيال يستند إلى إعداد علمي راسخ وأرضية معرفية واسعة ومتنوعة وصلبة يشعر القارئ معها بأنه يتحرك في بحر متلاطم من المعلومات التي توصله على أية حال إلى بر الأمان.

 

وهذا ما تكشف عنه أية قائمة لأسماء كتّاب المستقبليات الذين لايصدرون عن الخيال الجامح وحده بل عن التفكير المنظم الذي تحكمه حقائق علمية مؤكدة دون جمود يحد من انطلاق الفكر إلى مواقع غير مألوفة ولكنها ممكنة بحيث تتأكد فيها وحدة المعرفة الإنسانية ويمتزج العلم بالإنسانيات مما يتطلب من قارئ هذه الأعمال أن يكون على قدر من اتساع الأفق والتنوع الثقافي حتى يمكن له متابعة أفكارهم التي لاتخلو من رموز تحتاج إلى التأمل والتفسير. وإذا كان لدينا هنا في عالمنا العربي معرفة ببعض هذه الأسماء الموسوعية وتخصصاتهم مثل أولداس هكسلي – مثلا – أو إيزاك آسيموف أوآلان توفلر وزوجته هايدي أو غيرهم من الكتّاب المستقبليين بمن فيهم الكاتب الروائي جورج أورويل الذي يعتبره الكثيرون كاتبًًا مستقبليًا في ضوء روايته الشهيرة 1984 فإن قائمة الكتاب المستقبليين الآن وتخصصاتهم المتنوعة كفيلة بأن تثير الدهشة والإعجاب لدى القارئ العربي الجاد الذي لا يكاد يلم حتى بأطراف المجالات المختلفة والمتباينة التي ينتمي إليها هؤلاء الكتاب في الأصل مما يعطي الكتابات المستقبلية الأهمية العالية التي تستحقها. وهذا أمر نحتاج نحن إليه في تطلعنا للمستقبل الشديد التعقيد الذي لن نستطيع أن نتفهمه حق فهمه وأن نتابع ما يكتب عنه فضلاً عن أن نسهم بالكتابة فيه إلا إذا كان لنا مثل هذا الإعداد الذهني والتنوع الثقافي العميق والانفتاح على مجالات المعرفة المختلفة إلى جانب الخيال الخصب الطليق. وهذه أمور يصعب توافرها في عالمنا العربي نتيجة نظم التعليم الجامدة والأوضاع الاجتماعية العامة التي تقيد حرية التفكير وتحارب الإبداع الخلاق.

 

والأمثلة كثيرة ولها دلالتها نظرًا لانتمائها إلى تنويعة فريدة من التخصصات، مما يشير إلى النظرة الجادة إلى الدراسات المستقبلية. فهناك فرد بولاك Fred Polak المتخصص أصلاً في الدراسات الاجتماعية والمتوفى عام 1985، وهناك جاستون برجر Gaston Berger الذي سبقة بحوالي ربع قرن (1896 1960) والمتخصص فيما يطلق عليه اسم «العلم المعرفي». ولكن هناك إلى جانب ذلك جريس هوبرGrace Hopper المتوفاة عام1992 وكانت تهتم بمتابعة إسهام المرأة في ميدان الحاسبات الإلكترونية ثم انتقلت من مجال الدراسات النظرية إلى الحياة العملية المصاحبة وأقامت مؤسستها «We Build Better World» لإصلاح العالم. ولكن هناك إلى جانب ذلك الأحياء من العلماء من الجنسين الذين لايزالون يفتحون ميادين جديدة تمامًا أمام الدراسات المستقبلية من أمثال عالمة النفس جنيفر جيدلوي Jennifer Gidloy التي ترأست مؤسسةWorld Futures Studies Federation وعالم الاقتصاد الشهير جيرمي رفكين Jeremy Refkin والفنانة مصممة الأزياء لايدولي إديلكارت Lidewely Edelkaart التي لاتزال في الستينيات من عمرها إلى جانب عدد كبير من الكتّاب في الشئون الاجتماعية الذين يمكن التمثل بحياتهم إذا كنا جادين في مواكبة العصر والاهتمام بالمستقبل وتصوّره، والتخطيط له بصرف النظر عن مجال التخصص. فالعقل المبدع لايعرف حدودًا يقف عندها ويتخطى الزمن وحدود الحاضر المكاني ويستوعب كل المجالات المعرفية.

 

مجرد كاتب

 

أضرب لذلك مثلا بسيطًا لأحد الكتاب العلماء البريطانيين الذين تعكس كتاباتهم التمكّن من فهم وعرض المشكلات العلمية المعقدة والمتخصصة بأسلوب علمي دقيق يجمع بين الوضوح والإلمام بأجزاء المشكلة التي يعرضها أو يدافع عنها، والقدرة على التعبير والصياغة والعرض الأدبي الشائق والخيال القصصي الخصب الذي يستولي على ذهن القارئ ما يكاد يحس بأن ما يقرأه حقيقة واقعية أو يمكن أن تكون واقعية تتحقق في وقت ما وهكذا تزول الحواجز بين الحقيقة والخيال بفضل الصياغة المحكمة والعرض الدقيق. والمثال الذي هنا هو لكاتب عالم من أصل بريطاني لايكاد يكون معروفًا في عالمنا العربي نظرا لابتعاده عن دائرة الضوء والدعاية واختياره الابتعاد عن الحياة العلمية والأدبية في بريطانيا المعيشة في الهند مع أنه غزير الإنتاج وله نظرات صائبة بالنسبة لأوضاع المجتمع والإنسان والعالم في المستقبل.

 

الكاتب العالم الذي أقصده هو آرثر سي. كلارك Arthur C. Clarke (1917 2008) الذي كان يحب أن يصف نفسه في تواضع بأنه «مجرد كاتب» دون الإشارة إلى الصعوبات التي واجهها في بداية حياته أو الجهود التي بذلها لتعليم نفسه أو التخصص الذي نبغ فيه وهو علوم الفضاء أو الظروف القاسية التي عاش فيها أثناء شبابه والتي قابلها بالتحدي والإصرار على النجاح، وكانت نتيجة ذلك التحدي أن أفلح في إنشاء مؤسسة تحمل اسمه وهي مؤسسة The Arthur C. Clarke Foundation، كما ترك ثروة واسعة من الأعمال الأدبية التي تستند إلى معرفة علمية دقيقة ارتفعت به إلى مستوى الكتابة الخيالية عن العلم والرؤية المستقبلية شأنه في ذلك شأن آسيموف الذي ارتبط به على أية حال برابطة صداقة قوية. وقد اشتهر كلارك بشدة تمسكه بآرائه العلمانية المناوئة للدين إذ كان يعتقد بأن الدين «هو شر كان لابد منه في فترة طفولة الجنس البشري»، ولذا حرص على أن تكون جنازته هو نفسه في حالة وفاته جنازة دنيوية تمامًا ليس فيها أية إشارة أو ترانيم أو طقوس دينية من بعيد أو قريب.

 

توفي كلارك في التسعين من العمر في كولومبو بسريلانكا بعد معاناة طويلة من بعض الاضطرابات في الجهاز التنفسي وترك وراءه ثروة من المؤلفات تتضمن ليس أقل من مائة كتاب عن علوم الفضاء والمستقبل. وكان أبرز وأشهر ما كتب هو قصته الشهيرة بعنوان «2001: ملحمة فضائية 2001: A Space Odessey» التي كتبها عام 1968 وتحولت إلى سيناريو سينمائي عن التأثيرات المفزعة التي سوف تنجم عن التقدم الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي، وهي من أروع الأعمال الروائية الخيالية في الموضوع. ولكنه لم يكن مجرد كاتب قصصي في مجال الخيال العلمي البحت، فقد كان فكره مشغولاً طيلة الوقت بفكرة تطوير الأقمار الاصطناعية منذ عام 1945 أي قبل تحقيق هذه الأقمار بوقت طويل ولذا كان يطلق عليه اسم الأب الروحي للأقمار الاصطناعية. وقد كانت إنجازاته العلمية وراء انتخابه عضوًا في أكثر من جمعية علمية ولكنه هو نفسه كان يتساءل عن حقيقة مشاعره ونظرته إلى نفسه ويقول: «أحيانًا كنت أسأل نفسي كيف أحب أن يتذكرني الآخرون؟، فحياتي العملية كانت متقلبة ككاتب ومكتشف في أعماق البحار ومهتم بعلوم الفضاء ولكن من بين هذا كله كنت أحب أن يذكرني الناس ككاتب».

 

فقد كان – وخصوصًا ابتداء من 1950- يتولى الكتابة في موضوعات الخيال العلمي ويتفرغ تمامًا للمشكلات العلمية الخالصة بحيث كانت تصدر له أحيانًا ثلاثة كتب في السنة الواحدة. وحين مات كلارك قالت وكالة ناساNASA إن أعدادًا كبيرة جدًا من الأجيال الصاعدة فقدت القدوة التي كانت تبشّرهم بأن السفر عبر الفضاء قد يغير المجتمعات بل والإنسانية كلها، كما قال رئيس «رابطة إدارة العلم» في بريطانيا «إذا كانت ملحمة كلارك الخاصة على الأرض قد انتهت فإن نظرته ورؤيته للكون سوف تعيش أبدًا في كتاباته ولكننا سوف نفتقده بكل الألم».

 

لم يحصل كلارك على أي قدر من التعليم الجامعي في شبابه نظرًا لسوء حالته المالية، ولذا قبل العمل مع سلاح الطيران الملكي كعامل فني في الرادار في الفترة بين 1941 و 1946. ولكن تلك التجربة أتاحت له فرصة الالتحاق بإحدى الكليات الجامعية والحصول على شهادة في علوم الفضاء أطلقت لخياله التفكير الإبداعي فاقترح إقامة شبكة للاتصال عبر الأقمار الاصطناعية في وقت لم تكن فيه صناعة تلك الأقمار قد تطورت بعد. وكانت النتيجة المباشرة لتلك الفكرة وذلك المشروع المقترح انتخابه رئيسًا للجمعية البريطانية للعلاقة بين الأجرام السماوية في الفترة من عام 1947 إلى عام 1950 ثم مرة أخرى لعام 1953. ولكن ظروف كلارك الخاصة أجبرته على أن يهاجر إلى سيريلانكا التي كانت تعرف حينذاك باسم «سيلان» عام 1956 للتفرّغ للكتابة وممارسة هواية الغوص. وهناك بعض الشكوك حول أسباب اعتزاله الحياة والعمل والابتعاد عن الحياة في بريطانيا، وهي أسباب ترجع إلى طبيعة علاقاته العاطفية والجنسية كما يكشف عن ذلك زواجه وطلاقه السريع من امرأة تصغره بعشرين سنة ثم علاقة الصداقة الحميمة التي نشأت بينه وبين شاب هندي عاش معه في مسكن واحد وحين مات كلارك أوصى بأن يدفن في المقبرة التي دفن فيها ذلك الشاب الذي كان قد توفي قبل كلارك بسنوات قليلة.

 

الثلاثة الكبار

 

ولم تؤثر حياته الخاصة على تقدير بريطانيا له، فقد منحته الملكة عام 1989، أي قبل وفاته بعقد كامل وسام ولقب قائد في الإمبراطورية البريطانية CBE تقديرًا لمكانته العلمية وخدماته للارتقاء وتطوير ثقافة سيريلانكا، كما انتُخب رئيسًا شرفيًا للجامعة الدولية لعلوم الفضاء للفترة من 1989 إلى 2004، ورئيسًا لجامعة موراتوا Muratuwa في سيريلانكا للفترة من 1979 إلى 2002، ورئيسًا شرفيًا لمنظمة المحافظة على الغوريلا من الانقراض وهكذا. وفي أمريكا التي قدّرت أعماله وكتاباته الروائية في الخيال العلمي أطلقت عليه عام 1986 جماعة كتاب الخيال العلمي في أمريكا Science Fiction Writers of America لقب «Grand Master»، واعتبر هو والكاتب المعروف إيزاك آسيموف والكاتب الروائي روبرت هاينلين «الثلاثة الكبار» Big Three في مجال الخيال العلمي. ولكن بينما استمرت العلاقة القوية بين كلارك وآسيموف حتى نهاية حياتهما توترت علاقة كلارك بهاينلين عام 1989 إثر مهاجمة هاينلين موقف كلارك المعارض لسياسة أمريكا الفضائية. وثمة على الجانب الآخر مايشير في الأوساط الثقافية الأمريكية إلى وجود اتفاق شبه عام على اعتبار كلارك أفضل كاتب في مجال الخيال العلمي واعتبار آسيموف أفضل كاتب في مجال تبسيط العلوم. وهكذا تحل أمريكا المشاكل بين العلماء والكتاب عن طريق توزيع الأدوار بالتراضي كما هو الحال في سياستها الداخلية.

 

كان كلارك يعتقد أنه لا مستحيل في هذا العالم وأن الإرادة الإنسانية للفرد قادرة على تذليل كل الصعوبات، وأن الإنسان الفرد قادر على معرفة وتحديد الممكن من خلال ارتياد واقتحام العالم الذي يتصور أنه مستحيل. ويبدو أنه كان في هذا الاعتقاد متأثرًا بتجربته هو في الحياة والصعاب، التي مر بها من شخص إنجليزى عاجز عن أن يجد سبيله نحو التعليم إلى أن يصبح في رأي النقاد الأمريكيين أحد الثلاثة الكبار في أدب الخيال العلمي الذي يرتاد المستقبل وأن يشغل تلك المناصب والمستويات العلمية الرفيعة في الهيئات الدولية المعترف بمكانتها وأن يحل بشكل أو بآخر مشكلة العلاقة بين الإنسانيات والعلم ويحقق بالتالي أمل الكاتب البريطاني سى. بي. سنو C. B. Snow في الجمع بين ما يطلق عليه اسم «الثقافتان».

 

لقد أبرزت الأوساط الثقافية والعلمية نظرة كلارك هذه على أنها بمنزلة قانون، بل أطلقوا عليها بالفعل اسم «قانون كلارك» الذي لايعترف بالمستحيل أمام التقدم العلمي. وهذه هي الرسالة التي نود توصيلها إلى أجيالنا الصاعدة في العالم العربي.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments