استشراف المستقبل ضرورةٌ ملحة في واقعنا المعاصر | د. سليمان الكعبي

استشراف المستقبل ضرورةٌ ملحة في واقعنا المعاصر | د. سليمان الكعبي

2020-07-22 6:24 م

استشراف المستقبل ضرورةٌ ملحة في واقعنا المعاصر

 

لطالما شغل الإنسان بالبحث عن المجهول وسبر أغوار المستقبل، كيف لا والإنسان بطبعه يخشي المجهول‏..‏ وأهم مجهول له هو ماذا يخبيء له القدر‏..‏ ولذلك فلم يَأْلُ جهدًا في الأزمنة الغابرة وفي الأزمنة الحديثة أيضًا لاستكشاف مخبوءات القدر بالنسبة له‏.

 

وقد ذهب في ذلك كل مذهب، فتارةً يلجأون للعرافين وأخرى للمنجمين أو قارئي الكف أو قارئي الفنجان أو ضاربي الودع.. ظنا منهم أن أولئك الناس على اطلاع بالغيب. وقد رفع الإنسان بصره إلى السماء ليقرأ المستقبل في النجوم والكواكب، ثم خفضه ليتفحص أثر القوافل في الصحراء. ولأن الحياة فوضوية ومعقدة في آنٍ واحد، فقد لجأ الإنسان العربي في الجاهلية إلى الكهانة والعرافة والقيافة والعيافة والفراسة وعلم التنجيم ليقرأ الغيب وليستفزّ بها أقصى قدر من الاحتمالات.

 

وفي غمرة تسابقنا المحموم نحو المستقبل، وفي ظل مجتمعات عربية ترزح تحت وطأة حاضر هش ومرتبك، يطفو على السطح تساؤل هام وملح: إلى أيَّ مستقبل نرنو؟ وما سبل الوصول؟ ولكي نجيب على هذا السؤال، لابد وأن نعرف أي الطرق سنسلك؟ وأي الخيارات سنتبنى؟

 

أوَ نلقي بقيادنا لأهل الكهانة والتنجيم؟ أم سنظل أسرى للتاريخ، وبأن أسواره العالية تحول دون تطلعنا للأمام، هذا التطلع الذي حدا بالدول الكبرى ذات النفوذ والطموح أن تبتكر نوعًا جديدًا من الدراسات لتحديد سلم أولوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وكذلك الأمنية والدفاعية، وهو ما نفتقر إليه في الغالب في الدول العربية.

 

إنها دراسات المستقبل. أجل دراسات المستقبل. ولم لا؟ ألست تجد دائما النظر في المستقبل هو دالٌ على الأوج والانفتاح الحضاري، لاسيما وأن الدراسات المستقبلية المعاصرة قد ظهرت بشكل ممنهج بعد الحرب العالمية الثانية، وفي دواليب مؤسسات أمريكية، المدرسة الفرنسية كذلك شاركت، وما زالت تعطي في هذا الجانب، لكن المدرسة الأمريكية كانت سباقة من خلال ما يسمى بخلايا/خزانات الأفكار أو ما أسميه أنا ببيوت الخبرة لتسويق الأفكار وصناعة القرار think tanks، والتي بدأت تنظر للدراسات المستقبلية باعتبارها تصب في مصلحة السياسة الخارجية، وتحقيقًا لمصلحة الدول الكبرى في الهيمنة العابرة للقارات بحيث تستحوذ على معرفة ما يمكن أن يجري في العالم فيما بعد؟ ما هي إمكانيات تلك الهيمنة؟ وما حدودها؟ ما هي احتمالات تسويق الأفكار؟ تسويق االخدمات والمنتجات؟ تأثيرها على الساسة والشعوب؟ شكل العالم؟ الخرائط المستقبلية؟ وهلم جرا.

 

ولئن اتخذ التفكير في المستقبل -لدى العرب- منذ القدم أشكالًا بدائية أسطورية كالكهانة والتنجيم – مثلهم في ذلك مثل سائر الحضارات القديمة الأخرى- فقد آن الأوان لنا نحن العرب أن نرسم ونخطط لمستقبلنا.. أن نضرب في مناكب الحاضر لنسبر أغوار المستقبل..أن نتتبع العواقب والمآلات فنجود الأحكام والقرارات.. أن نستشرف آفاقًا جديدة فنقتنص الفرص قبل وقوعها ونعد العدة لأية أزمات مفاجئة أو أحداث مباغتة.. أن نتلمس أحداث المستقبل كما برعنا من قبل في اقتفاء آثار الماضي.

 

لقد أضحت الحاجة للدراسات المستقبلية أو استشراف المستقبل كما يسميه البعض ضرورة ملحة في ذلك العصر، لاسيما وأن التغيرات متسارعة ومتنامية.. البيانات متضخمة ومتشعبة.. الأحداث متداخلة ومتلاحقة.. التطلعات متزايدة وملحة.

 

ولنعلم جيدًا أن استشراف المستقبل ليس انتهاكًا لستر الغيب كما يدعي البعض، أو أنه مجرد تخمينات عبثية لا طائل منها، أو أنه هاجس الفضول الذي يستحوذ علينا للتلصص على القدر أو التجسس على المجهول. إنه علمٌ يدرس له قواعد وأصول. كما أن له خبراء ومختصون نستقي من عقولهم النيرة الكثير والكثير، وننهل من معارفهم ما ينور بصيرتنا ويهون علينا السير إلى المستقبل. وقطعًا، ليس استشراف المستقبل محض آراء واجتهادات كما قد يتصور لدى البعض.

 

أما آن لنا أن نتلمس أسباب الأمل، لا أعني بذلك أحلام اليقظة، ولكن أن نفتش جاهدين عن الفرص الكامنة في طيات المستقبل لهو أشبه بالفريضة الغائبة أو واجب الوقت لدى جموع العرب. إنني أتحدث عن إحياء الأمل في مستقبل أفضل، واستباق الأزمات لاتخاذ قرارات أكثر حصافةً وحكمة في مثل تلك المواقف.

 

ليس المستقبل إلا حصاد ما نفعله اليوم؛ إن خيرًا فخير وإن سوءًا فسوء. أختم كلامي بما قاله الأديب العالمي نجيب محفوظ داعيًا إيانا باستشراف المستقبل قائلًا “حقًا، إنه مستقبل ثري يختفي وراء حاضر عسير، وما علينا إلا أن نعرف قيمة الزمن، إنه نعم النصير لمن يحترمه، ولكن لا يجامل ولا يرحم الكسالى المتواكلين.”

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments