استشراف المستقبل وآفاق التنمية المستدامة | د. نانيس عبد الرازق فهمي

استشراف المستقبل وآفاق التنمية المستدامة | د. نانيس عبد الرازق فهمي

2019-12-27 3:00 ص

استشراف المستقبل وآفاق التنمية المستدامة | د. نانيس عبد الرازق فهمي

News

د. نانيس عبد الرازق فهمي*

 

الإنسان مُطالب بأن يمتلك صورة مستقبلية توضح له معالم المستقبل، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اْلَذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اْلله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اْللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيُرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. تطالب هذه الآيةُ بالتطلع إلى الغد بالنظر العلمي القائم على المعطَيات الملموسة، وهنا يصبح الغد حاضراً في اليوم، وقيمة اليوم فيما يقدمه للغد. أن اهتمام الإنسان بمستقبله أمر فطري راسخ فيه، وقد لازمه منذ نشأته الأولى. فإذا كوَّن الإنسان صورة مستقبلية لنفسه أو لمجتمعه، أو للبشرية كافة، وتوافرت له الإرادة لتحقيق هذه الغاية، كانت هذه الغاية المستقبلية هي المحرك لنشاطه وهي الدافع لتطويره.

 

من هذا المنطلق تظهر أهمية الدراسات المستقبلية أو استشراف المستقبل وهو التفكير الاستراتيجي بما سيكون عليه الحال في الغد، واتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة للوصول إلى تحقيق أعلى مراتب النجاح فيما تم تحديده من أهداف، ويرتبط به عدد من المفاهيم كبحوث المستقبليات، ودراسات البصيرة، والتنبؤ التخطيطي، والتحركات المستقبلية، والمنظور والمأمول المستقبلي، وغيره. وبالرغم من أهمية هذا النوع من الدراسات، ورغم توافر المعلومات والأساليب التكنولوجية الحديثة، لكننا نعجز عن التنبؤ، وقد يرجع ذلك إلى ميل الأفراد للصور النمطية واعتقادهم بأن ما حدث في الماضي سيتكرر في المستقبل، وهذا اعتقاد خاطئ يمكن معالجته عن طريق تدريب وإعداد الأشخاص في مراكز تدريب متخصصة تقدم مباريات استشرافية تنافسية بين الأفراد.

 

وفي عالم اليوم، دولــــة الـمـسـتـقـبـل هي الدولة التي يكون لديها الرؤية والمرونة والمبادرة والقدرة الإستباقية الناجحة والمستدامة على الإستشـراف والاستكشـاف المبكر للـــتـــحـــديــات والأزمـــات الــمـسـتـقـبـلـيـــة، وتحليلهــا، ومعالجتهــا، ووضــع الخطــط لها، مع العلم أن عملية استشراف المستقبل لا تهدف الى إصلاح الماضي ولا تقليل أخطاء الحاضر، وإنما تركز على الصورة المثلى للمستقبل وإمكانية تحقيقها من أجل غد أفضل، وهذا يعتمد على عاملين:

 

الأول التوسع في مجال البحوث الاستشرافية، والتي تعني بدراسة التطورات المتوقعة ونتائجها المحتملة وكيفية تحقيقها، والثاني يعتمد على قدرات الإنسان (من الخبرة، البصيرة، الحدس الخيال، الرؤيا، الذكاء، التفكير، الفهم، وممارسة التدريبات العالية علي الأساليب الكمية والمحاكاة وغيرها)، وهذا ما يمكن القيادات من تطوير المعايير التي يمكن من خلالها التوصل إلى أفضل صور للمستقبل.

 

وهناك جدل يدور حول ضرورة استشراف المستقبل، والمدى الزمني للدراسات المستقبلية، ولا زال الكثير يرون بأن المستقبل يقوم فقط على الخبرة في التخطيط الناجح، لكن الأصل أن التخطيط الناجح يتمثل في فهم متطلبات وأسس الاستشراف وفق خطوات منهجية مدروسة لتكوين الرؤى المستقبلية الواضحة، ومن ثم فإن عدم ادراك هذه العلاقة، قد ينعكس سلبا على اعداد الخطط الناجحة بالأساس.

 

كما تتوقف القدرة على مـــواجـــهـــــة تـــحـــديـــــات وغـــمـــــوض المســتقبل ومعالجــة أعراضها، على اســتغلال الفــرص المتاحة، بنــاء علــى الــرؤى والقيــم والأهـداف الوطنيـة المسـتقبلية بعيـدة المـدى علـى كافـة المسـتويات، لتحقيـق إنجـازات نوعيـة لخدمـة مصالـح الدولـة والأجيال الحالية والمستقبلية. وفي هذا الإطار فإن عوامل النجاح الرئيسية تتمثل في.. بناء القدرات الوطنية والاستثمار بعيد المدى وتطوير البنى التحتية والمرونة والتخطيط.

 

وبالتالي يعمل استشراف المستقبل على قراءة وفهم المؤشرات الخارجية، والتعامل مع متغيراتها وتوظيفها لصالح الدولة، والقدرة على التفكير المنهجي حول المستقبل، وتوفير البيانات اللازمة لصنع القرار الاستراتيجي في الحاضر، ومن ثم تتحقق الاستفادة الكاملة من الفرص المتاحة والاستعداد لكل المخاطر المحتملة. ويمكن العمل على استشراف المستقبل على عدة مراحل لصنع الخطة الاستشرافية: المستقبل القريب وهـو المسـتقبل الـذي يمتـد مـن سـنة الــى خمــس ســنوات، ثم المستقبل المتوسط وهـو المسـتقبل الـذي يمتـد حتـى فتـرة عشر سنوات وأخيرا المستقبل البعيد هـو المسـتقبل الـذي يمتـد لأكثـر مـن عشر سنوات.

 

وتشمل مجالات الدراسات المستقبلية مجالات كثيرة كالأزمات الكبيرة (النمو السكاني العالمي، والغذاء والجوع العالمي، ومصادر الطاقة والتلوث البيئي، الحرب و السلام والصراع العالمي)، واستشراف المستقبل بمعني أننا في حاجة إلي تصميم مناهج غير تقليدية تستطيع أن تتواءم مع التغيرات المحلية والعالمية السريعة وسيطرة مفهوم العولمـة، وتشمل هذه المناهج الأبعاد المتعددة لاستشراف المستقبل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

 

تشمل الابعاد السياسية لاستشراف المستقبل تطبيقه في استشراف مستقبل العلاقات الدولية والسياسية والدفاع والأمن وتطبيقه في مختلف القطاعات الحكومية والخدمات الحكومية، وشكل الحكومة مستقبلا، واستشراف مستقبل التعليم والمدارس في العالم والتحديات والتحولات المستقبلية والمهارات المطلوبة، واستشراف مستقبل قطاع الصحة والرعاية الصحية في العالم وتوقعات الطلب المستقبلي والتوصيات الاستباقية، ورأس المال البشري والابتكار، واستشراف مستقبل السكان والشباب وأثرهما على الاقتصاد والموارد البشرية وسوق العمل والمهارات ووظائف المستقبل المطلوبة لكل قطاع ودمجها في مستقبل التعليم والتكنولوجيا والأنظمة الذكية بل استشراف مستقبل تكنولوجيا المعلومات والأنظمة الذكية بناء على التوجهات المستقبلية وأثرها على البنية التحتية المتعلقة والعرض والطلب ووضع الخطط المستقبلية لها. كذلك استشراف مستقبل البنية التحتية والتوقعات على الطلب والتوسعات المستقبلية في هذا المجال ووضع الخطط لها.

 

والأبعاد الاقتصادية لاستشراف المستقبل في الاقتصاد والأمن الاقتصادي والتجاري والنقل ودراسة التوقعات الاقتصادية وأثرها على الاقتصاد، ودراسات توقعات الموارد المالية المستقبلية ووضع السياسات المالية الاستباقية لها، واستشراف مستقبل الأمن المائي والغذائي، كذلك استشراف مستقبل الطاقة والمعادن وآثار أسعار البترول ووضع الإجراءات والسياسات الاستباقية لها. واستشراف مستقبل الأمن الالكتروني والاتصالات بناء على التوجهات المستقبلية في العالم ووضع الخطط والسياسات المستقبلية لها. واستشراف مستقبل التنمية الاجتماعية المستدامة والتوجهات المستقبلية لها وأثرها على تنمية المجتمع ووضع السياسات الاستباقية لذلك.

 

ولا يغفل استشراف المستقبل عن استشراف مستقبل البيئة والتغير المناخي والانبعاثات الكربونية والتوجهات المستقبلية لها ووضع الخطط والسياسات المستقبلية لها. وبالطبع هناك تحديات أمام هذا النوع من الدراسات متمثلة في التغيرات فائقة السرعة في الاقتصاد والمجتمع والعلوم والتكنولوجيا، وضغوط المتغيرات الخارجية التي تدفع سريعاً باتجاه إلغاء الحدود والقيود، ومن ثم أصبح لزاما علي الدول أن تتحسب لردود الأفعال الخارجيـة لأي قرار داخلي والاستجابة الداخلية لأي تغير خارجي، وإعداد حسابات دقيقة للتأثير المتبادل بين الداخل والخارج، وذلك بشكل أو بآخر مهمة الدراسات المستقبلية. كما يقف عائقا أمامها القناعة بالحاضر وعدم التطلع إلي المستقبل، اضافة الى ظهور الأجهزة الالكترونية فائقة القدرة علي معالجة المعلومات، وهذا التطور ينبغي استغلاله مع عوامل أخري لتطوير الدراسات المستقبلية و تأسيسها علي أعمدة منهجية راسخة نسبياً.

 

في هذا الاطار، علي الجهات الحكومية التفكير في مستقبل القطاعات المختلفة، والاستعداد للمستقبل ووضع دراسات وسيناريوهات لاستشراف مستقبل القطاعات التابعة لها، والتنسيق في ذلك مع الوحدات المحلية والقطاع الخاص. لذلك يجب وضع واستخدام استراتيجية المستقبل عن طريق تعزيز فكر وثقافة استشراف المستقبل في الجهة المعنية وجعلها عملا مؤسسيا يوميا، ودمج المبادرات والسياسات المستقبلية في استراتيجية الجهة، وتطوير مشاريع استشراف المستقبل من خلال فريق العمل الداخلي للجهة المعنية، ورفع التقارير بصورة دورية للاطلاع على جهود الجهة بخصوص المستقبل من أجل قياس وتحليل ومتابعة نتائج استشراف المستقبل. ويتحقق ذلك عن طريق تطبيق آليات العمل في مجال استشراف المستقبل من خلال الشراكة أو التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع، وذلك من أجل تعزيز مكانة الدولة كوجهة للمستقبل من خلال المنصات الدولية والاقليمية.

 

*  دكتوراه في العلوم السياسية، متخصصة في شئون الأمن الإقليمي

 

المصدر

4 1 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
محمد

السلام عليكم دكتورة
هل لديكي اختبار او مقياس لقياس استشراف المستقبل عند الطلاب