التوق لاستشراف المستقبل وجذور المصطلح | أ. د. إسحاق السعدي

التوق لاستشراف المستقبل وجذور المصطلح | أ. د. إسحاق السعدي

2019-12-13 3:00 ص

التوق لاستشراف المستقبل وجذور المصطلح | أ. د. إسحاق السعدي

 

توق الإنسان للمستقبل ظاهرة لازمت تاريخه بمقتضى العقل والفطرة. أما العقل فالإنسان يهتم بالمستقبل لكونه الأفق الذي يرتاد، كما قال أحد المفكرين الغربيين: «أنا أهتم  بالمستقبل لأنني ذاهب إليه». وأما الفطرة فلكون الإنسان مسوق بفطرته للتفكير في المستقبل، والاهتمام به، بمشاعر الحذر والأمل والخوف والرجاء، وربما لأسباب متنوعة منها الهروب من الواقع أحياناً، ويضاف إلى ذلك ما يفرضه الصراع والتنافس والارتقاء بالمستوى على صعيد الفرد والمجتمع، إذ المستقبل هو المجال المتاح لذلك بالجد والمثابرة، والاجتهاد، واكتشاف القوى الفاعلة فيه، وامتلاك روح المبادرة والتحدي. يقول ابن خلدون: «اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق الى عواقب امورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت، وخير وشر، سيما الحوادث العامة، كمعرفة ما بقي من الدنيا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها، والتطلع الى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها، ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوقون الى الوقوف على ذلك في المنام، والأخبار من الكهان -لمن قصدهم- بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة».

 

المستقبلية جمع فريد بين العلم والفن، وبين التنظيم والأخلاقية، وبين الذكاء الإلكتروني والفهم الذي يعمل لتجنب السقوط في الفوضى الشاملة لأنها تحتفظ بمنظور فريد عن الحقيقة.

 

وهناك صور ونماذج من تعلق الإنسان بالمستقبل في التاريخ البشري، سواءً كانت صوراً صحيحة وسليمة أو صوراً غير سليمة، كقراءة الكف والسحر والتنجيم، لذلك فإن التنبؤ بالمستقبل والتعامل معه، وربما إنتاجه والتحكم فيه وإدارته يعد علما أو فنا قديما جداً قدم الإنسان نفسه، فلا تخلو حضارة او قوم على مر التاريخ الا وهي تعتمد على استشراف المستقبل، ولكن ربما كان ذلك في سرية تامة وبمختلف الوسائل، والأساليب المشروعة، وغير المشروعة والأخلاقية، وغير الأخلاقية، ويصدرون في التعامل معه من رؤى ينسجها مختصون في ذلك، فمنذ فتح الإسكندر المقدوني الشرق، وهو يعتمد على معلومات وروية للمستقبل وعلى هذا المنوال قامت الإمبراطوريات، وسادت الحضارات ثم بادت، ولها صلة بصفة او أخرى بعلم المستقبل وفن استشرافه.

 

أما استشراف المستقبل باعتباره علما متخصصا ضمن الحقول العلمية في العلوم الإنسانية، فيذهب (ادوارد كورنيش) في ملحق كتابه المستقبليات للقول: «إن جذور الدراسات المستقبلية تعود الى فرانسيس بيكون ١٥٦١م – ١٦٢٦م الذي  ضمَّن مولفه اطلنطس الجديدة فكرة انشاء معهد بحوث مكرس لحل المشاكل الإنسانية». ويذهب إلى القول كذلك: بإن اول من اقترح اسماً لدراسة المستقبل هو عالم الاجتماع (س.سي غيلفيلان)، الذي اقترح سنة ١٩٠٧م لهذا النوع من الدراسات المستقبل ان تسمى (علم المستقبل)، على الرغم أن (هـ . ج ويلز) سبقه بأعوام عام ١٩٠٢م، حين تصور مجموعة من العلماء يشتغلون على المستقبل لكن فكرة التسمية (mellontology)، والإهتمام الأكثر يعود لعالم الاجتماع (س . سي غيلفيلان) مشيرًا لقوله: «ثمة حاجة الى علماء احداث المستقبل، وطلاب حضارة المستقبل عموماً بقدر ما هناك علماء اثار يكتشفون ويستنبطون كل النواحي المتداخلة لحضارة ما قبل التاريخ»، وإن علم المستقبل أحرز قليلَ تقبلٍ في زمانه، بيد أنه يؤكد ان هذه الفكرة كانت مرتهنة بحياة صاحبها، وانها نسيت حتى عام ١٩٤٣م، حين اقترح عالم السياسة (اوسيب ك.فليختهام ) مصطلحاً بديلاً، هو علم المستقبل (Futurology) معلقاً على ذلك بقوله: «بين الحين والآخر تجمع نتايج البحوث والدراسات، وتندمج معاً في نظام جديد يعالج المواد نفسها بطريقة جديدة، وهكذا فعلم الاجتماع، وهو الدراسة الاستقرائية المعممة للمجتمع، أو علم التاريخ أصغر سناً من بعض العلوم الأكثر خصوصية، والتي يستمد الواحد منهما منها، وبما أن علم المستقبل لا يمثل الى حد كبير قطاعاً خاصاً جديداً من المعرفة، بل يمثل تركيباً جديداً لمواد متنوعة فانه يتصل اتصالًا وثيقاً بالتاريخ، ويمكن ان يصور على أنه فعلاً وضع التاريخ في بعد زمني جديد».

 

ولكن على علم المستقبل، وبغياب التسجيلات المكتوبة او غير المكتوبة، أن يفيد من أسلوب نهج جديد، فهو لا يستطيع أن يعمل ضمن التسلسل الزمني للحقائق المفصلة، بل إنه بدل ذلك سيستفيد من التفسير والتأويل والتعميم، والتكهن الى أعلى الدرجات، وعلى ذلك تصبح واضحةً وجلية صلته بالأنثروبولوجيا الثقافية، وعلم الاجتماع النظري والفلسفة الاجتماعية، وبغض النظر عن التفاوت حول أول من اقترح التسمية (علم المستقبل) فإن هذا المصطلح لم يستقر، ودارت حول أمر المستقبل تساؤلات كثيرة هل هو علم أم فن أم فلسفة؟! وبالتالي تعددت التسميات، ثم إن بعض الجمعيات والجهات المعنية بهذه الدراسات أجرت استفتاءات منها، استفتاء جمعية المستقبل العالمية عام ١٩٧٥م، الذي رشح مصطلحين اثنين الأول:  _ دراسات المستقبل _ بحث المستقبلات ولكل منهما مزايا، وأوجه قصور ناقشها إدوارد كورنيش في ملحق كتابه المشار إليه أعلاه، وانتهى إلى القول : «وإذا درست الأمور كلها بإمعان فإن خير المصطلحات المقترحة قد تكون الريادات المستقبلية»، وذكر لذلك أسبابا عدة مقرراً أن الريادات المستقبلية جمع فريد بين العلم والفن، وبين التنظيم والأخلاقية، وبين الذكاء الإلكتروني والفهم الذي يعمل لتجنب السقوط في الفوضى الشاملة، لأنها تحتفظ بمنظور فريد عن الحقيقة أي التطلع إلى الأمام زماناً، فهذا التركيز على المستقبل يوفر مبدأ تنظيمياً لخلق إطار قوي للفكر والعمل، يمكن أن يساعد البشرية على تصريف الحضارة الإنسانية، وإدارتها بحكمة متزايدة في السنوات الآتية.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments