الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج

الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج

2019-07-19 7:00 ص

الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج

 

ثمة تساؤلات تُثار اليوم في الأوساط العلمية، حول ما عُرف مؤخرًا بالدراسات المستقبلية؛ فهل هي أساليب علمية أم أنها مجرد تخرّصات ورجم بالغيب دون سند علمي؟ هل نتائجها أقرب إلى الحتمية أم أنها مجرد احتمالات قد تقع أو لا تقع؟ هل هناك فرق بين الأساليب التقليدية للتنبؤ بالمستقبل وبين الأساليب المستحدثة لهذا الغرض، بحيث يمكننا الجزم بأنه قد تبلورت منهجيات علمية محددة للدراسات المستقبلية؟ هل هي دراسات كمية أم دراسات نوعية كيفية؟ وما هي هوية الدراسات المستقبلية بالتحديد؟ أهي دراسات استكشافية (تعرّفنا بصورة المستقبل) أم أنها دراسات استهدافية (تحاول أن تصل بنا إلى مستقبل معين)؟ وهل أصبحت دراسة المستقبل تخصصًا مستقلاً أم أنها تتقاطع مع العديد من التخصصات العلمية والإنسانية؟ والخلاصة أن ثمة إشكاليات ما زالت تعترض طريق الدراسات المستقبلية نحو تبلورها كعلم وكمنهجية علمية يمكن الاعتداد بها والوثوق بافتراضاتها وتقنياتها ونتائجها.

 

الاهتمام بالمستقبل قديم جدًا قدم الحياة البشرية، ويمكن اعتبار الكهانة وربط أحداث المستقبل بوقائع أو مشاهدات عابرة، كالنجوم والطوالع، بداية غير موفقة لاهتمام الإنسان بالمستقبل. إلا أن العقلانية والمنطقية في التنبؤ بالمستقبل، قد بدأت منذ أن أدرك الإنسان علاقة الماضي بالحاضر وسير الأحداث وفق سنن ومشاهدات استقرت على وتيرة معينة في الماضي، وعليه فمن الممكن أن تستمر في المستقبل. عندها بدأ الإنسان في اتخاذ التدابير التي تكفل له التعرف على المستقبل بدرجة مقبولة من الوصف والتنبؤ فالتهيؤ والاستعداد وصولاً إلى الضبط والتحكّم.

 

وفي العقود الأخيرة تطورت محاولات السيطرة على المستقبل، من خلال التطويرات المتلاحقة في التخطيط ومنهجياته؛ من تخطيط تقليدي، قصير أو متوسط أو بعيد المدى،إلى تخطيط استراتيجي، حتى ظهرت مناهج أساليب جديدة تحاول وصف المستقبل البعيد نسبيًا، وهي التي عرفت بالدراسات المستقبلية. ويبدو أن الدراسات المستقبلية تهدف إلى مساعدة صانعي القرارات على اتخاذ قرارات رشيدة، وتبني سياسات حكيمة، وتحديد أهداف واضحة وقابلة للتحقيق، واستخدام وسائل فعالة وكفؤة لبلوغ تلك الأهداف وغيرها من الوسائل الكفيلة بالسيطرة على المستقبل وضبطه.

 

وكان أول من توصل إلى اصطلاح دراسة المستقبل هو المؤرخ الألماني «أوسيب فلنختاهيم» عام 1930م، تحت اسم Futurology وهو الاسم الشائع للدراسة المستقبلية في اللغة الإنجليزية، ويقابله المصطلح الفرنسي Prospertive للعالم «جاستون برجيه» ويطلق عليها أحيانًا اسم aFuture Studies(1).

 

وقد أمكن تعريف الدراسات المستقبلية بأنها «مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية، والعمل على إيجاد حلول عملية لها، كما تهدف إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة للموقف المستقبلي، والتي يمكن أن يكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل» (2). كما أمكن تعريف الدراسات المستقبلية بأنها « التنبؤ المشروط من منظور احتمالي وعلمي نسبي»(3). أو أنها «تخصص علمي يهتم بصقل البيانات وتحسين العمليات التي على أساسها تتخذ القرارات والسياسات في مختلف مجالات السلوك الإنساني، مثل الأعمال التجارية والحكومية والتعليمية، والغرض من هذا التخصص مساعدة متخذي القرارات أن يختاروا بحكمة من بين المناهج البديلة المتاحة للفعل في زمن معين»(4). وتوسِّع الجمعية الدولية للمستقبلات من مفهوم الدراسات المستقبلية على أساس طبيعتها من خلال أربعة عناصر رئيسية هي العناصر التالية(5):

 

1- أنها الدراسات التي تركز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية.

 

2- أنها أوسع من حدود العلم؛ فهي تتضمن الجهود الفلسفية والفنية جنبًا إلى جنب مع الجهود العلمية.

 

3- أنها تتعامل مع نطاق لبدائل النمو الممكنة، وليس مع إسقاط مفردة محدّدة للمستقبل.

 

4- أنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آماد زمنية تتراوح بين 5 سنوات و50 سنة.

 

وتستند الدراسات المستقبلية إلى عدة مبادئ، يمكن استخدامها بصورة مطورة، بالتركيز على المستقبلات المرغوبة التي نحب أن توجد، وذلك بالإصرار في الحاضر على أن نغير ما نفعله الآن، ومن أهم مبادئ الدراسات المستقبلية المبادئ التالية(6):

 

1. مبدأ الاستمرارية Continuity: وهو توقع المستقبل امتدادًا للحاضر وخاصة الحقائق العلمية مثل توقع أن تكون الأنهار أو المحيطات في نفس مكانها المعتاد للأعوام القادمة، أي استمرارية الحوادث من الماضي للحاضر للمستقبل.

 

2. مبدأ التماثل Analogy: وهو توقع أن تتكرر بعض أنماط الحوادث كما هي من وقت لآخر.

 

3. مبدأ التراكم Accumulation: وهو تراكم نفس الأحكام على نفس الوقائع، مع اختلاف الأشخاص لمدد تتفاوت تاريخيًا.

 

ويمكن القول إن الدراسات المستقبلية تساعدنا على صنع مستقبل أفضل، وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة، من أهمها ما يلي(7):

 

1. اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها أو حتى لقطع الطريق عليها والحيلولة دون وقوعها.وبذلك تؤدي الدراسات المستقبلية وظائف الإنذار المبكر، والاستعداد المبكر للمستقبل، والتأهل للتحكم فيه، أو على الأقل للمشاركة في صنعه.

 

2. إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا، وبخاصة ما هو كامن منها، والذي يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية. وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبو إليه من تنمية شاملة سريعة ومتواصلة. ومن خلال عمليات الاكتشافات وإعادة الاكتشاف هذه تسترد الأمة الساعية للتنمية الثقة بنفسها، وتستجمع قواها وتعبئ طاقاتها لمواجهة تحديات المستقبل.

 

3. بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها. وذلك بإخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج. ويترتب على ذلك المساعدة في توفير قاعدة معرفية يمكن للناس أن يحددوا اختياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ضوئها، وذلك بدلًا من الاكتفاء بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التي تختلط فيها الأسباب بالنتائج، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعي مما هو ذاتي.

 

استشراف علمي أم رجم بالغيب؟

 

المستقبل في أبسط تصوراته عبارة عن(8):

 

1- تطور سلبي أو إيجابي للماضي

 

2- عملية تطور للماضي

 

3- عملية تحول للماضي من حالة إلى أخرى. أما المستقبل الذي يعنيه المهتمون بالدراسات المستقبلية فهو بالتأكيد ليس الغيب، الذي اختص الرحمن سبحانه وتعالى بعلمه، بل هو نهج الحياة الذي دعانا تبارك وتعالى إلى أن نصوغ وفق متطلباته وجودنا، والذي نريد أن يحياه أولادنا في غد مقبل، ونحن جميعا مطالبون بأن نعمل ونخطط ونبحث ونستخدم نتائج العلوم وحصاد التجربة الإنسانية لضمان تحقيقه؛ فالعمل من أجل المستقبل عقيدة إيمانية، وضرورة مؤكدة، وفريضة حضارية.

 

وهذا ما تجلى بأبدع صورة في الخطة المستقبلية الحكيمة التي وضعها نبي الله يوسف عليه السلام في تأويله لرؤيا الملك، وقد وردت في الذكر الحكيم تتلى إلى يوم القيامة لاستخلاص العبرة منها، قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (يوسف: 46-49) (9).

 

والأحداث التي تحدث في المستقبل هي في الواقع تغيرات تنتج عن تفاعل قوى ديناميكية مستمرة، والتعرف على تلك القوى الديناميكية يستلزم طرح بعض الافتراضات عن المستقبل؛ ومنها الافتراضات التالية(10):

 

– أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل مختلفة عن الماضي.

 

– أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل سيكون من الصعب التنبؤ بها.

 

– أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل ستكون أسرع من ذي قبل.

 

– أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل يمكن معالجتها من خلال توفير المعلومات الدقيقة.

 

– أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل يمكن معالجتها بأساليب موضوعية بعيدة عن التأثير الشخصي.

 

ولكن معيار العلمية والمنهجية لا يكمن في استخدام العلم للفرضيات فحسب، بل هو يكمن في منطقية هذه الفرضيات ومعقوليتها، إلى جانب تناسقها وترابطها فيما بينها، وأخيرًا في قدرتها على فتح آفاق جديدة للبحث. وعليه يمكن عرض الفرضيات المنطقية التي تستند إليها الدراسات المستقبلية كما يلي(11):

 

– قراءة التاريخ هي بداية التفكير العلمي في المستقبل. مع ملاحظة أن الماضي ليس الهدف، بل الهدف هو المستقبل، وأن الغاية من دراسة الماضي هي مراقبة الحاضر، وتفسير أحداثه، وتداعياته، إعدادًا للمستقبل.

 

– التاريخ من منظور وظيفته تاريخان؛ تاريخ عبء ويعني الوقوع في وهم استعادة الماضي، وأمجاده، بأشكاله وصوره، وتاريخ حفز وهو الذي يجعل المرء يحس بمشكلات حاضره، وبآمال مستقبله، إحساسًا مدركًا دقيقًا.

 

– بداية الطريق لكل إصلاح وتغيير للحاضر وتنمية للمستقبل تبدأ بتغيير الإنسان، وهذا هو القانون الإلهي في الحضارة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11).

 

– من المستقبل ما يمكن التنبؤ به، فإن الله سبحانه وتعالى قد أجرى – بحكمته- الكون والمجتمعات على سنن كشف منها ما كشف للإنسان.

 

مستقبل أي مجتمع، أو جانب منه، لا يصح النظر إليه أو معالجته بعيدًا عن السياق أو الكل الذي ينتمي إليه ويتفاعل معه. بحكم العلاقة بين سياقات المجتمع كافة، بل وبين المجتمع وغيره من المجتمعات.

 

المستقبل الذي نسعى إليه ليس مستقبلاً واحدًا لا فكاك منه، بل أمامنا في الواقع عدة أوجه من المستقبل، وعدّة خيارات لما نود أن نكون عليه، وفق إمكاناتنا، وقدراتنا، وتحديد أهدافنا، وعزمنا على أن نصل إلى ما نود أن نكون عليه.

 

المستقبل يمكن صنعه وإبداعه وتوفير متطلباته ومستلزماته – بتوفيق الله- وصولاً إلى ما اخترنا أن نكون عليه، في ضوء قيمنا وثقافتنا وغايتنا وأهدافنا، كما يمكن الاستسلام، والإذعان لما يأتي به، حتى ولو كان صدمة أو عدة صدمات.

 

– الزمن عامل حاسم ومورد فعال في إحداث التغيير؛ بحكم امتداده ومرونته وبحكم قابليته للإخضاع والتنظيم والتوجيه.

 

– يحتاج النظر العلمي للمستقبل إلى وسائل وأساليب ومناهج وتقنيات علمية والقدرة على التحليل، ومن ثم التركيب، إلى جانب الحدس، والقدرة على التصور مع الإحاطة والنظرة الشمولية.

 

– يجب أن ننظر إلى المستقبل على أنه لن يكون امتدادًا واطرادًا خطيًا لما هو قائم، ولا استمرارًا لاتجاهات تحددت من قبل، أي أن الرؤية المستقبلية لا ينبغي لها أن تستند فقط إلى الأساليب الإسقاطية التي تقوم على التعرف على أنماط العلاقات السائدة، ومحاولة مدها في المستقبل، وتوظيفها توظيفًا مباشرًا في تحليل احتمالاته.

 

ويطلق في كثير من الدراسات على عملية التنبؤ العلمي بالمستقبل اسم «الاستشراف». والاستشراف «يحمل في مضمونه اللغوي معاني النظر إلى شيء قادم من بعيد، والتطلع إليه ومحاولة التعرف عليه، واتخاذ أسباب الوصول إلى ذلك بدقة، كالصعود إلى مكان مرتفع يتيح فرصة استطلاعه قبل وصوله»(12).

 

حتمية أم احتمال؟

 

أفرز التفكير السلبي متمثلاً بالإيمان بالحتمية التي لا دخل للإنسان فيها ثلاثة اتجاهات سلبية نحو المستقبل، وهي الاتجاهات التالية(13):

 

1- الاتجاه الأول: يقين بلا حدود بقدرة العلم والمبتكرات التكنولوجية على صنع المعجزات وحل كل مشكلات البشرية في المستقبل. وهو اتجاه ضار وخطير لأنه يشجع على الرضا بما هو قائم، اعتمادًا على آمال مفتوحة بغير حدود، وغير مسوغة.

 

2- الاتجاه الثاني: يرى أن ضرر العلم والتقنية الحديثة يفوق ما قدمته للبشرية من خدمات؛ فلقد تجاوز العلم قدرة الإنسان على التحكم فيه والسيطرة عليه، وأن التحديات التي تواجه العالم أصبحت غاية في التعقيد، ولا أمل لحلها، ولم يعد في مقدرة الإنسان مواجهتها لتعقّدها ولكثرتها.

 

3- الاتجاه الثالث: وهو العيش في كنف الماضي، أو الحنين إلى الماضي، ويسمى مرض الحنين إلى الماضي، وأنصاره لا يرون خيرًا في الحاضر، وهذا الاتجاه يرى في الماضي النموذج الأمثل للمستقبل، فهو يسقط المستقبل إسقاطا خلفيًا على الماضي.

 

وترتب على نقد هذه الاتجاهات السلبية نحو المستقبل أن جاء اتجاه ينادي بالتخلي عن الحتمية، والقول بأن هناك أشكالًا مختلفة للمستقبلات المحتملة، وأن التدخّل الملائم يمكن أن يرجح حدوث أحدها، وهذا يبرر عملية ارتياد المستقبل ومحاولة استكشافه، والبحث عن آليات وأساليب علمية للتحكم في اتجاهه. ولهذا أصبح الاهتمام بالمستقبل يركز على الأهمية الحاسمة للبدائل أو الخيارات المستقبلية، والتي تراوح فيما بين ثلاثة بدائل هي التالية(14):

 

1- مستقبلات ممكنة: أي المجال أو الشيء الذي يمكن حدوثه في المستقبل، سواء كان جيدًا أو شيئًا محتملاً وغير محتمل.

 

2- مستقبلات محتملة: أي مستقبلات أكثر احتمالاً للحدوث في المستقبل؛ وذلك بناء على تطورات معينة أو مد الماضي في المستقبل.

 

3- مستقبلات مرغوبة أو مفضّلة: وهي المستقبلات المرغوب حدوثها في المستقبل. (وهي المستقبلات التي تعمل الدراسات المستقبلية على ترجيحها).

تنبؤ تقليدي أم أساليب حديثة؟

 

خلال النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، وما قبله، شاعت العديد من الأساليب التي استخدمت للتنبؤ بالمستقبل، بغرض اتخاذ القرارات، ورغم أنها تدخل في العملية الإدارية الذهنية المعروفة بالتخطيط، ورغم أنها أصابت قدرًا من النجاح في مساعدة المخططين على التنبؤ بالمستقبل، واتخاذ قرارات رشيدة بصدده، إلا أنها عُدّت وسائل تقليدية للتنبؤ بالمستقبل، عند مقارنتها بالطرق والتقنيات الحديثة في هذا المجال. ومن الأساليب التقليدية للتنبؤ بالمستقبل ما يلي(15):

 

1- أسلوب التنبؤ عن طريق التخمين الذكي؛ ويعتمد هذا الأسلوب على الطريقة الحدسية التي يستخدمها الفرد في تقدير بعض جوانب المستقبل. لكن مثل هذه التنبؤات قد يصادفها الفشل أكثر من النجاح.

 

2- أسلوب استقراء الاتجاهات؛ ويعتمد هذا الأسلوب على أن الاتجاهات التي ثبتت في التاريخ القريب سوف تستمر في المستقبل، ويفترض هذا الأسلوب أن القوى التي كانت توثر في تشكيل الاتجاه في الماضي سوف يستمر تأثيرها في المستقبل، وتظهر نقطة الضعف في هذا الأسلوب في انه يفترض أن القوى التي كانت تؤثر في الماضي سوف يستمر تأثيرها في المستقبل بنفس الدرجة، وللتغلب على نقطة الضعف السابقة أمكن عن طريق الطرق الإحصائية ابتكار أساليب فنية جديدة لاستقراء الاتجاهات بكفاءة عالية.

 

3- أسلوب الإسقاطات؛ وغالبا ما تعتمد طرق الإسقاط على استقراء الاتجاهات الماضية. إلاّ أن طرق الإسقاط قد تعتمد في كثير من الأحيان على نموذج قياس يضم عددًا من العلاقات، من أهمها:

 

– التعريفي؛ وهو الذي يعبر عن علاقات توازنية معينة بين المتغيرات.

 

– السلوكي؛ وهو الذي يعكس السلوك المتوقع، وغالبًا ما يؤخذ السلوك الرشيد كأساس لتحديد العلاقات.

 

– الفني؛ وهو الذي يعكس العلاقة بين المدخلات والمخرجات المختلفة المتوقعة في نظام ما.

 

4- أسلوب المحاكاة أو المماثلة؛ ويعتبر هذا الأسلوب امتدادًا لأسلوب الإسقاط المبني على توافر النموذج ولكنّه يتميز بجانبين:

 

أ- أن العلاقات التي تعتمد عليها متعددة، تقبل إضافة عدد كبير من العوامل ذات التأثير الهام في عملية التنبؤ.

 

ب- إمكانية إدخال أسلوب التحليل الاجتماعي في التنبؤ المستقبلي.

 

5- أسلوب التعرف على المستحدثات؛ يقوم هذا الأسلوب على التعرف على المستحدثات الممكن توقعها، ومن المفروض أن المستحدثات الكبرى سيترتب عليها حدوث تغيرات لا يمكن توقعها من خلال الأسلوب الإسقاطي.

 

6- أسلوب تحديد مجالات الانتشار؛ ويقوم هذا الأسلوب على فكرة أساسية قوامها أن التغيرات الاجتماعية الرئيسية إنّما تنجم عن الانتشار الواسع للتكنولوجيا والامتيازات القائمة وليست من المستحدثات الكبرى الجديدة، ويعني هذا الأسلوب أن ما كان في يوم احتكارًا لقلة يصبح متاحًا للكثير، مما يترتب علية تغيرات واسعة في المجتمع.

 

ولكن الدراسات المستقبلية في مناهجها وتقنياتها الحديثة تختلف عن أساليب التنبؤ التقليدي؛ ويمكن التفرقة بينهما في أربع نقاط رئيسية هي:

 

1. المدى الزمني: حيث تتعامل الدراسات المستقبلية مع مدى زمني أطول من ذلك الذي يتناوله التنبؤ التقليدي.

 

2. معدلات التغير: حيث تتعامل الدراسات المستقبلية مع درجات من التغير أعلى من تلك التي يعتمد عليها التنبؤ التقليدي.

 

3. البدائل: حيث تتعامل الدراسات المستقبلية مع بدائل مختلفة للموضوع محل البحث، نتيجة لعدم القدرة على معرفة التغيرات في الأجل الطويل.

 

4. أساليب التحليل: حيث تستخدم الدراسات المستقبلية أساليب للتحليل الكمي والكيفي، بينما يعتمد التنبؤ التقليدي على أساليب كمية فقط.

 

وتسود اليوم أساليب مستحدثة للتنبؤ بالمستقبل وتصميم الدراسات المستقبلية، ومن أساليب الدراسات المستقبلية الحديثة؛ الأساليب التالية(16):

 

1- أسلوب السلاسل الزمنية، Time Series Methods وهي من الطرق التي لا تقوم على نماذج سببية Causal، تعبر عن سلوك المتغير أو المتغيرات موضع الاهتمام وفق نظرية ما، وإنما تشمل طرقًا ونماذج تتفاوت من حيث التعقيد وكم المعلومات المسبقة المطلوب.ومنها نموذج الخطوة العشوائية Random Walk Model الذي يفترض قيمة المتغير في فترة ما هي قيمته التي تحققت في فترة سابقة (ولذا يطلق عليه نموذج عدم التغير). ومنها طرق إسقاط الاتجاه العام Trend Extrapolation بالمتوسطات المتحركة وتحليل الانحدار. ومنها أساليب تفكيك السلاسل الزمنية للتنبؤ بالتغيرات الموسمية. ومنها طرق التمهيد الأسي للسلاسل الزمنية، والطرق المعتمدة على النماذج الإحصائية للسلاسل الزمنية.

 

2- أسلوب الإسقاطات السكانية؛ ومن أشهرها ما يعرف بطريقة الأفواج والمكونات Cohort-Component Method، حيث يتم حساب النمو في عدد السكان من مكونات محددة كالمواليد والوفيات والهجرة إلى الدولة والهجرة من الدولة، وحيث يمكن التنبؤ بعدد السكان في كل فوج أو شريحة عمرية – جنسية استنادًا إلى معدلات الخصوبة ومعدلات البقاء على قيد الحياة حسب العمر والجنس.

 

3- أسلوب النماذج السببية Causal Models؛ وهنا يتم التنبؤ بقيم متغير ما أو مجموعة متغيرات باستعمال نموذج يحدد سلوك المتغيرات المختلفة استنادًا إلى نظرية معينة. ومن أشهر هذه النماذج نماذج الاقتصاد القياسي Econometric Models، ونماذج المدخلات والمخرجات Input-Output Models، ونماذج البرمجة Programming Models أو الأمثلية Optimization، ونماذج المحاكاة Simulation Models، ونماذج ديناميات الأنساق Systems Dynamics (التي تعد دراسة «حدود النمو» لنادي روما من أشهر تطبيقاتها).

 

4- أسلوب الألعاب أو المباريات Gaming؛ وهي طريقة تعتمد على المحاكاة ليس فقط من خلال الباحث في الدراسات المستقبلية، بل وكذلك بإشراك الناس فيها كلاعبين يقومون بأدوار Role Playing يتخذون فيها قرارات أو تصرفات، ويستجيبون لقرارات وتصرفات غيرهم، ويبدون رد فعلهم إزاء أحداث معينة. ويتم استخراج الصور المستقبلية البديلة باستعمال نماذج لفظية أو رياضية أو كمبيوترية أو محاكيات فعلية.

 

5- أسلوب تحليل الآثار المقطعية Cross Impact Analysis؛ وهو أسلوب لفهم ديناميكية نسق ما، والكشف عن القوى الرئيسية المحركة له. كما أنه أسلوب لفرز التنبؤات الكثيرة والخروج منها بعدد محدود من التنبؤات، وذلك بمراعاة أن احتمال وقوع بعض الأحداث يتوقف على احتمال وقوع أحداث أخرى. أي أنها طريقة لأخذ الترابطات وعلاقات الاعتماد المتبادل بين الظواهر أو المتغيرات أو التنبؤات في الحسبان.

 

6- الأساليب التشاركية Participatory Methods؛ ويقصد بها طرق البحث المستقبلي التي تتيح المجال لمشاركة القوى الفاعلة أو الأطراف المتأثرة بحدث ما في عملية تصميم البحث وجمع المعلومات اللازمة له وتحليلها واستخراج توصيات بفعل اجتماعي معين بناء على نتائجها. وهذه الطرق أكثر استعمالًا من الناشطين في مجال المستقبليات، أي من يقومون بالدراسات المستقبلية ذات التوجه الاستهدافي والتي يرتبط فيها الاستهداف بممارسات عملية للترويج والتعبئة والتحريض على اتخاذ فعل اجتماعي يساعد على تحقيق صورة مستقبلية مرغوب فيها أو على منع حدوث صورة أو صور مستقبلية غير مرغوب فيها. ومن أمثلة هذه الطرق التشاركية في البحث المستقبلي طريقة الممارسة المستقبلية بالمشاركة Participatory Future Praxis، وطريقة البحث التشاركي الموجه للفعل الاجتماعي Participatory Action Research، وطريقة ورش عمل المستقبليات Futures Workshops، وطرق إجراء التجارب الاجتماعية Social Experiments، والبحوث المستقبلية الاثنوجرافية Ethnographic Futures Research التي تركز على استطلاع المستقبلات الثقافية – الاجتماعية من خلال مقابلات مطولة ومفصلة ومتكررة مع مجموعة من الأفراد المشتغلين بظاهرة ما (كالبحث والتطوير التكنولوجي) أو الذين يحتمل تأثرهم بحدث ما.

 

7- أساليب التنبؤ من خلال التناظر والإسقاط بالقرينة؛ وتقوم أساليب التناظر أو المشابهة Method Of Analogy على استخراج بعض جوانب الصور المستقبلية استنادًا إلى أحداث أو سوابق تاريخية معينة والقياس على ما فعلته دول معينة في مرحلة أو أخرى من مراحل تطورها لإنجاز معدل ما للنمو الاقتصادي مثلًا. أما أساليب الإسقاط بالقرينة، فهي تقوم على افتراض أن ثمة ارتباط زمني بين حدثين، حيث يقع أحدهما قبل الآخر عادة، بحيث يمكن التنبؤ بالحدث اللاحق استنادًا إلى الحدث السابق. فمثلاً يمكن أن يؤخذ التقدم في الطائرات الحربية من حيث السرعة قرينة على التقدم في سرعة الطائرات المدنية. ومن أشهر هذه الطرق طريقة السلاسل الزمنية القائدة Leading Series التي كثيرًا ما استخدمت في التنبؤ بالدورات الاقتصادية، حيث يؤخذ بطء النمو في متغيرات اقتصادية معينة (كالمخزون أو التعاقدات الجديدة) قرينة على إبطاء حركة النشاط الاقتصادي في مجموعه.

 

8-أساليب تتبع الظواهر وتحليل المضمون؛ ويقصد بطريقة تتبع الظواهر Monitoring استخدام طائفة متنوعة من مصادر المعلومات في التعرف على الاتجاهات العامة لمتغيرات معينة، مع افتراض أن الاتجاهات العامة التي يتم الكشف عنها هي التي ستسود في المستقبل. وقد استخدم هذه الطريقة الباحث المستقبلي المشهور Naisbitt في التوصل إلى ما أطلق عليه الاتجاهات العامة الكبرى Megatrends. أما طريقة تحليل المضمون Content Analysis فهي تركز على تحليل مضمون الرسائل Messages التي تحملها الصحف والمجلات والبحوث والكتب وما يذاع في الإذاعة والتليفزيون وغيرها، وتسجيل مدى تكرر عبارات أو كلمات تحمل قيمًا أو توجهات معينة، وبناء استنتاجات مستقبلية على تحليل هذه التكرارات.

 

9- أسلوب تحليل آراء ذوي الشأن والخبرة؛ ومن هذه الأساليب طريقة المسوح Surveys التي يتم فيها استطلاع رأي أو توقعات عينة من الأفراد سواء من خلال استبيان يرسل بالبريد أو يتم تعبئته عن طريق المقابلة الشخصية أو الاتصال الهاتفي. ومنها طريقة ندوة الخبراء Panel Discussion وطريقة الاستثارة الفكرية أو القدح الذهني Brain Storming، وطريقة دلفاي Delphi Method التي يتم فيها استطلاع الآراء والتحاور بشأنها، مرة واحدة كما في ندوة الخبراء والاستثارة الفكرية أو عدة مرات كما في طريقة دلفاي.

 

10- أسلوب السيناريوهات Scenarios؛ والسيناريو وصف لوضع مستقبلي ممكن أو محتمل أو مرغوب فيه، مع توضيح لملامح المسار أو المسارات التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الوضع المستقبلي، وذلك انطلاقًا من الوضع الراهن أو من وضع ابتدائي مفترض. والأصل أن تنتهي كل الدراسات المستقبلية إلى سيناريوهات، أي إلى مسارات وصور مستقبلية بديلة. فهذا هو المنتج النهائي لكل طرق البحث المستقبلي. ولهذا فإن بعض المستقبليين يعتبرون السيناريو الأداة التي تعطي للدراسات المستقبلية نوعًا من الوحدة المنهجية Methodological Unity، وذلك بالرغم من أن الطرق التي قد تستخدم في إنتاج السيناريوهات تتنوع تنوعًا شديدًا.

 

فالسيناريوهات يمكن أن تبنى بأي من الطرق السابق ذكرها أو بمجموعات معينة منها. كما أنها يمكن أن تبنى بطرق أخرى لم تتعرض لها كالسيناريوهات التي تعتمد اعتمادًا كليًا على الخيال العلمي أو الإبداع الأدبي أو الحدس أو الاستبصار Foresightوالتي قد ينفرد بكتابتها شخص واحد – لا فريق من الباحثين العلميين.

 

وعمومًا، فإن السيناريوهات تصف إمكانات بديلة للمستقبل، وتقدم عرضًا للاختيارات المتاحة أمام الفعل الإنساني، مع بيان نتائجها المتوقعة بحلوها ومرها. وقد ينطوي تحليل السيناريوهات على توصيات ضمنية أو صريحة حول ما ينبغي عمله، ولكن ذلك يتوقف – كما سبق بيانه – على التوجه الذي يأخذ به واضعو السيناريوهات، أي ما إذا كان توجهًا استطلاعيًا أم توجهًا استهدافيًا.

 

الكم أم الكيف؟

 

يمكن تقسيم أساليب هذه الدراسات المستقبلية وفق معايير متنوعة؛ ومن أشهر معايير التصنيف هذه هو تصنيفها حسب درجة اعتمادها على قياسات كمية صريحة إلى طرق كمية Quantitative وطرق كيفية Qualitative، ولكن يعيب هذا التقسيم أن التمايزات ليست قاطعة بين ما هو كمي وما هو كيفي من طرق البحث المستقبلي. وكثيرًا ما يكون الفرق بينهما فرقًا في الدرجة – لا في النوع. كما يندر أن تعتمد الدراسات المستقبلية الجيدة على القياسات الكمية وحدها دون اللجوء إلى الطرق الكيفية، على الأقل في مرحلة التحليل والتفسير والتوصل إلى استنتاجات)(17).

 

استكشاف أم استهداف؟

 

من حيث نقطة البداية التي ينطلق منها التفكير المستقبلي، في إطار الدراسات المستقبلية، تتخذ دراسات المستقبل أحد سبيلين أو أسلوبين(18):

 

الأول: استكشافي/استقرائي؛ ينطلق من الموقف الراهن (الحاضر)، بتاريخه السابق، ليسقطه على المستقبل، فيسوق لنا مشاهد أو سيناريوهات اتجاهية هي امتداد للماضي والحاضر. والمقاربات الاستكشافية تكون دراستها على أساس المعرفة المتواترة لدينا عن الماضي والحاضر. وعمومًا فإن المقاربة الاستكشافية أو الاستطلاعية أو الوصفية تتسم بأنها امتدادية غير مبدعة، ولكنها أكثر دقة، فهي تعيد إنتاج الحاضر في تحليلها النهائي. فعلى سبيل المثال نحن نعرف أن إزالة الغابات تعمل على تآكل الأراضي المزروعة مع حدوث مضاعفات خطيرة للدورة البيولوجية المستقبلية كلها. وفي المناطق التي يتم فيها إزالة الغابات يمكننا التنبؤ بالمستقبلات الممكنة والمحتملة والمرغوبة في ضوء الأراضي المزروعة المفقودة. ونحن لا يمكن أن نقوم بنفس الشيء إذا خطّطنا لإيقاف إزالة الغابات ولبدء عملية لإعادة زرعها من جديد.

 

الثاني: استطلاعي/ استهدافي/ معياري؛ يبدأ ببعض المواقف والأهداف المستقبلية المرغوبة أو المسلم بها، ويرجع إلى الخلف ليحرك مسالك ملائمة للانتقال من الحاضر إلى المستقبل المأمول. والمقاربات المعيارية أو الاستهدافية مقاربات مبدعة، ولكنها تجنح إلى الخيال المفرط، وكلتا المقاربتين تشوّش صورة المستقبل. ونجد مثالاً لذلك في هدف مثل نشر التعليم الابتدائي بين جميع السكان العرب، وسوف يعمل عكسيا بدراسة الفعل الضروري لتحقيق هذه النتيجة خلال خمس إلى عشر سنوات أو أكثر، فهذه الدراسات هي اقتراحات للفعل وتقترب من التخطيط طويل المدى.

 

تجدر الإشارة إلى أن الطرق الاستكشافية والاستهدافية ليست ضد بعضها أو في مواجهة بعضها أو أن إحداها بديل للأخرى؛ فالمقاربة المعيارية لمستقبل معين مرغوب فيه، تُبنى عادة على مقاربة حدسية استكشافية تدّعي أن المستقبل المذكور يمكن تحقيقه. وبالمثل فإن مقاربة حدسية- معيارية تدعي أن الناتج سوف يكون مرغوبا فيه أو عنه إذا تم تحقيقه.

 

ولعل إشكالية التفضيل والاختيار ما بين المقاربات المستقبلية الاستكشافية والمعيارية قد دفعت إلى التماس مقاربة ثالثة، هي في الحقيقة مركب بين المقاربتين الاستكشافية (الأكثر دقة) والمعيارية (الأكثر خيالاً)، يعظم من مزايا كل منهما، ولعل مدخل الرؤية الاستراتيجية كان هو المجسد لهذه المقاربة المركبة (الطريقة التفاعلية).

 

بينية أم استقلال؟

 

يبدو أنه من غير الممكن أن تستقل الدراسات المستقبلية كتخصص منفرد، على الأقل في الوقت الراهن، ولعل مثل هذه القناعة هي قناعة مبكرة بدأت مع بداية الاتجاه العلمي المستقبلي.

 

ونظرًا لاهتمام العلماء والمفكرين بالتفكير في مستقبل مجتمعاتهم وحل مشكلاتها، فقد امتد استخدام الدراسات المستقبلية على مجالات متعددة، من أهمها المجالات التالية(19):

 

– النمو السكاني العالمي والغذاء والجوع العالمي ومصادر الطاقة، والتلوث البيئي.

 

– السلام والصراع العالمي والحروب.

 

– نظام الأمم المتحدة وتسييس العولمة.

 

– الفجوة والعلاقات بين الشمال الغني والجنوب الفقير.

 

– التكتلات الاقتصادية العالمية والإقليمية.

 

– اتجاهات العولمة الاقتصادية.

 

– اتجاهات العولمة السياسية.

 

– التفكك وتشرذم القوى المجتمعية.

 

التكنولوجيا الجديدة والبناء المجتمعي.

 

– اتجاهات قوة العمل مثل أنماط الإدارة الحديثة، والتوظيف والبطالة.

 

– تغيير النماذج الثقافية.

 

– اتجاهات التعليم والتعلّم.

 

ومن المهم التأكيد على أنه «لم يعد ممكنًا تحليل المشكلات بواسطة تخصص واحد مع تعقدها وتعدد جوانب المشكلة الواحدة.. وهذا ما يحدث بالفعل في البحوث المستقبلية، على الأقل في المستوى المنهجي؛ ففي أسلوب دلفي يربط علم النفس القوى مع الرياضيات وعلم الاجتماع. وفي السيناريوهات يرتبط علم الاجتماع مع الرياضيات والعمل التاريخي معًا في مداخلهما وافتراضاتهما ووسائلهما. وفي النماذج العالمية يرتبط علم الاجتماع مع الرياضيات والإحصاء في جهد لفهم المشكلات المعقدة للمستقبل»(20).

 

إشكاليات وعقبات في الطريق

 

رغم مضي أكثر من خمسين عاما على نشأة البحوث والدراسات المستقبلية إلا أنه يمكن النظر إليها، كنشاط منظم، على أنها ما زالت في طور التكوين. ولعل أهم العوامل المسئولة عن هذا التباطؤ في ظهور علم دراسة المستقبل، مرده إلى وجود إشكاليات متنوعة، نظرية ومنهجية، منها ما يلي(21):

 

1- المستقبل ليس له وجود كشيء مستقل؛ لذا لا يمكن دراسته، بل من الممكن دراسة أفكار عنه. وتقود هذه الإشكالية إلى نتيجتين مهمتين هما:

 

أ- تعقد موضوع البحث المستقبلي بين تعامله مع ظواهر اجتماعية بالغة التعقيد، والعوامل العديدة الكثيرة والمتشابكة التي تواجهه والتي يستحيل حصرها أو التحكم فيها في وقت واحد،كما أن التحقّق التجريبي لنتائجه متعذر تمامًا.

 

ب- موضوعية الباحث المستقبلي أو عدمها، حيث يتعذّر على الباحث المستقبلي تخليص نفسه من المعتقدات والآراء والتعصب أو التحامل المستحوذ عليه عن طريق تعليمه وبيئته أو وسطه الذي خرج منه أو قراءاته أو خبراته….

 

2- ليس ثمة مستقبل واحد بل مستقبلات؛ وهذه المستقبلات،التي تراوح بين المحتمل والممكن والمرغوب، مشروطة بظروف وعوامل تاريخية مجتمعية وحضارية.

 

3- التعقد والتشابك (البينية)؛ فدراسة المستقبل لا يتسنى لها أن تصبح متكاملة إلا إذا نظرنا إلى هذا المستقبل من خلال عدسات مختلفة التخصصات، وأن تكون معاينته في فترات مختلفة من الزمن.

 

4- النظر إلى المستقبل يشوشه، تمامًا كما أن النظر إلى الذرة يغيرها، والنظر إلى الإنسان يحوّله، وهذه مشكلة العلوم الاجتماعية والإنسانية عمومًا.

 

الهوامش:

 

1- نبيه، محمد صالح أحمد. المستقبليات والتعليم. بيروت:دار الكتاب اللبناني، 1423هـ/2002م، ص 9

 

2- فلية، فاروق عبده والزكي، أحمد عبد الفتاح. الدراسات المستقبلية: منظور تربوي. عمان دار المسيرة، 1424هـ/2003م، ص 67

 

3- زاهر، ضياء الدين. مقدمة في الدراسات المستقبلية: مفاهيم- أساليب- تطبيقات. القاهرة: مركز الكتاب للنشر، 2004م، ص 51

 

4- زاهر، نفسه، ص 51

 

5- زاهر، نفسه، ص 52

 

6- نبيه، سابق، ص10

 

7- العيسوي، إبراهيم. الدراسات المستقبلية ومشروع مصر 2020م. القاهرة: معهد التخطيط القومي، 2000م، ص8

 

8- الثبيتي، جويبر ماطر والوذيناني، محمد معيض. الأساليب الكمية للدراسات المستقبلية. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، مركز البحوث التربوية والنفسية، 1417هـ، ص 11

 

9- الرشيد، محمد بن أحمد. رؤية مستقبلية للتربية والتعليم في المملكة العربية السعودية. د ن، 1421هـ، ص 35

 

10- الثبيتي والوذينانين سابق، ص 8

 

11- الرشيد، سابق، ص ص 28-35

 

12- العواد، خالد إبراهيم. مؤشرات حول مستقبل التربية في المملكة العربية السعودية، أبها: ندوة استشراف مستقبل العمل التربوي في المملكة العربية السعودية، اللقاء السادس لمديري التعليم بأبها، 1418هـ.، ص 25

 

13- الرشيد ص 26

 

14- زاهر، سابق، ص 59

 

15- النوري، عبد الغني. اتجاهات جديدة في التخطيط التربوي للبلاد العربية. الدوحة: دار الثقافة. د. ت.، ص 87 )

 

16- العيسوي، سابق، ص ص 17-20.

 

17- العيسوي، سابق، ص 17.

 

18- زاهر، سابق، ص 53

 

19- نبيه، سابق، ص11

 

20- زاهر، سابق، ص 61

 

21- زاهر، سابق، ص ص 65-67

 

المصدر

 

1 1 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments