هل فشلت الدراسات المستقبلية في توقع "الربيع العربي" أم أننا لا نقرأ؟

هل فشلت الدراسات المستقبلية في توقع “الربيع العربي” أم أننا لا نقرأ؟

2019-10-29 6:35 م

هل فشلت الدراسات المستقبلية في توقع “الربيع العربي” أم أننا لا نقرأ؟ | أ. د. وليد عبد الحي

 

أبدأ بالسؤال الأول: هل لو لم يحرق البوعزيزي نفسه لكان الربيع العربي لم يحدث؟ ام أن الواقع العربي كان ناضجا ومهيئا للحريق لكنه بحاجة لعود الثقاب –أي عود ثقاب -؟

 

يمكن تحديد ثلاث فترات زمنية شكلت نقاط تحول في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعاصر للمنطقة، والجسر الرابط بين هذه القناطر الثلاث أوصل المنطقة إلى “الربيع العربي“.

 

أولا: القنطرة الأولى: 1979

 

أزعم أن عام 1979 شكل نقطة تحول (turning point) في الشرق الأوسط بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص، ويكفي ملاحظة أن هذا العام هو الذي وقعت فيه الأحداث التالية (بالترتيب) والتي لا يمكن فصل “الربيع العربي عنها”:

 

أ‌- عام 1979: قيام الثورة الإيرانية بكل التداعيات التي ترتب عليها تغير في توازنات القوى وتحولات آيديولوجية وحرب عراقية إيرانية أيقظت الثنائية الشيعية السنية من سباتها التاريخي ناهيك عن كل ما تلا ذلك من التحول التدريجي من الجبهة الغربية العربية (فلسطين) إلى الجبهة الشرقية (إيران).

 

ب‌- عام 1979: أول معاهدة “سلام” بين إسرائيل وبين أكبر دولة عربية (مصر) وهو ما فتح الباب لتحول جديد في موازين القوى وبدء تراجع الموضوع الفلسطيني تدريجيا.

 

ت‌- عام 1979: تولي صدام حسين منصب رئيس جمهورية العراق بكل ما ترتب على وصوله للسلطة من تداعيات أبرزها الحرب العراقية الإيرانية واحتلال الكويت والحرب الخليجية الثانية والتغلغل الأمريكي في المنطقة بطريقة عنيفة.

 

ث‌- عام 1979: استيلاء جهيمان العتيبي ومجموعته على الحرم المكي بكل ما ترتب على ذلك من زيادة الجذب للإسلام السياسي المسلح والتنبه الأمريكي بخاصة لإمكانيات استثمار الثقافة الموغلة في المحافظة لأغراض سياسية.

 

ج‌- عام 1979: دخول الجيش السوفييتي إلى أفغانستان واحتلالها بكل ما نتج عن ذلك من تعزيز توجهات الإسلام السياسي المسلح بخاصة بظهور ظاهرة بن لادن وما ترتب عليها.

 

ما يجمع كل هذه الظواهر هو “أن تداعياتها في الاتجاه الأعظم كان تعزيز ظاهرة الإسلام السياسي وصعوده التدريجي ونزوعه التدريجي أيضا نحو العسكرة”.

 

ثانيا: القنطرة الثانية: انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991

 

وتعززت ظاهرة الإسلام السياسي –بخاصة المسلح – بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 والذي كما عزز الثقة الرأسمالية بآديولوجيتها (نهاية التاريخ –فوكوياما) فقد حقن هذا الحدث الهام التيار الإسلامي السياسي بجرعة من ثقة لامست حدود الصلف والغرور، لكنه عمق الظواهر المرافقة والتي حدثت عام 1979.

 

القنطرة الثالثة: الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008

 

كان للأزمة المالية العالمية في عام 2008 والتي بدأت شرارتها بأزمة الرهن العقاري الأمريكي دورها، فقد كلفت الاقتصاد العربي -ما يهمنا في هذا المقام- في صدمتها الأولى طبقا لما قاله وزير الخارجية الكويتي في حينها ( محمد صباح السالم) في 17 يناير 2009 لوكالة الأنباء الكويتية أن الأزمة العالمية كلفت الاقتصاد العربي حوالي 2.5 تريليون (اثنان ونصف تريليون) دولار، وأدت لإرجاء حوالي 60% من مشروعات التنمية العربية المشتركة وانخفاض العمالة العربية في الدول العربية النفطية لصالح العمالة الآسيوية من 72% الى 23% وهو ما رفع البطالة العربية حينها إلى 14%.

 

إن العوامل الداخلية والعوامل الخارجية تضافرت لصنع هذا الربيع المسموم، لكن موعد هذا الربيع ليس هو المهم، ففي المباراة الرياضية يمكن توقع الفريق الفائز، لكن موعد تسجيل الأهداف أمر أكثر تعقيدا..، وقد نبه الباحثون لما هو قادم قبل “عود الثقاب البوعزيزي”، وكان لكل باحث متغيراته، فالباحث Yaneer bar-yam صاحب نظرية complex systems ورئيس New England Complex Systems Institute نبه الحكومة الأمريكية في دراسة له قبل واقعة البوعزيزي، وقد كشف عن هذه الدراسة مع اندلاع الربيع العربي وعنوانها: The food crisis and political instability in north Africa and the middle east، وارتكزت هذه الدراسة بشكل جوهري على عدد من المتغيرات لكن أبرزها هو أسعار المواد الغذائية (والذي هو نتيجة لشبكة من المتغيرات الفرعية)، وهو نفس المتغير الذي بنى Michael Gordon دراسته عليه للتنبؤ بمستقبل الشرق الأوسط تحت عنوان forecasting instability…كما أنني رجحت سيناريو سقوط حسني مبارك وتحديدا في عام 2011 في دراستي عن إيران والتي انتهيت منها عام 2008، ثم نشرت في عدة طبعات وتم توظيف أربعين متغيرا لرصدها.

 

أما Philipe Fargues وJack Goldstone فقد توقعا الانفجار العربي استنادا لمتغير “الهرم الديموغرافي” مركزين على نسبة الشباب المؤهل علميا لكنه عاطل عن العمل، وتوقعا أن الفترة بين 2010 و2012 هي الفترة الأكثر احتمالا للانفجار وهو ما وقع فعلا.

 

وفي تقديري أن بناء مصفوفة التأثير المتبادل –كأحد أهم تقنيات الدراسات المستقبلية– هي التي تحلل أكبر عدد من المتغيرات استنادا للأصول المنهجية لهذه التقنية، لتحدد محركات (Drivers) الظاهرة موضوع الدراسة، فمثلا تشير دراسة استندت لفكرة “تروتسكي” عن أن مصير الثورات مرتهن لموقف “المؤسسة العسكرية”، ووصلت تلك الدراسة إلى أن مصير الربيع العربي (الدراسة عام 2012) إلى أن الربيع العربي سيفشل بسبب مواقف المؤسسات العسكرية والتنظيمات غير المدنية.. وهو ما نراه ماثلا أمامنا.

 

استنادا لكل هذا أرى بشكل أولي- وهو ما يحتاج مزيدا من النقاش العلمي المتزن والحذر:

 

1- ظاهرة الإسلام السياسي المسلح ظاهرة عابرة –بما فيها داعش-، ويجب التمييز بين العمليات العشوائية التي تسعى لإثبات وجود مادي اندحر تماما (كدولة الخلافة) وبين القدرة على إقامة كيانات سياسية قادرة تستطيع الحفاظ على ديمومتها، فالظواهر الاجتماعية تموت على مراحل بل وتُدفن على مراحل وليس كالظاهرة البيولوجية، أما الفكر-متطرفا أو غير متطرف- فما زلنا بعد 25 قرنا على موت أفلاطون ندرسه ونسمع الاستشهاد بأقواله بين الحين والآخر..

 

2- أن الحريق العربي ليس معزولا عن التعقيد الهائل في تفاعلات النظام الدولي بسبب آليات العولمة التي هشمت أغلب البنيات القديمة وتُلح على بناء تنسجه الكيانات ما فوق الدولة وما دونها بعد تزايد التخلي التدريجي للدولة عن وظائفها التقليدية وهو ما يتضح في الخصخصة المتزايدة حتى وصل لبعض المؤسسات العسكرية.

 

3- أن الترابط العضوي المتزايد في المجتمع الدولي (الترابط الاقتصادي والمالي والتقني والمعرفي) سيعيد صياغة كل قنوات الترابط الآلي (وهنا عبقرية العالمين دوركهايم وكوندرسيه)، أي أن القبيلة والقومية والدين واللون والجندر ..الخ في طريقها للتكيف “طوعا أو كرها” مع ثقافة العولمة وهو ما ينطبق على عالمنا العربي…ربما.

 

المصدر (26 أبريل 2019):

 

 

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments