رؤية خامنئي لمستقبل الثورة: «النموذج الإسلامي» في خمسين عاماً | زكريا أبو سليسل

رؤية خامنئي لمستقبل الثورة: «النموذج الإسلامي» في خمسين عاماً | زكريا أبو سليسل

2019-09-27 3:00 ص

رؤية خامنئي لمستقبل الثورة: «النموذج الإسلامي» في خمسين عاماً

 

زكريا أبو سليسل

 

الثلاثاء 12 شباط 2019

 

بعد خمسة عشر عاماً من إعلانها خطّتها العشرينية التي شكّل «تبوّء إيران المنزلة رقم واحد في المنطقة» عمودها الرئيس، تدخل الجمهورية الإسلامية العقد الخامس من عمر ثورتها بخطّة جديدة، ترسم من خلالها خريطة طريق على المستويات كافة للخمسين عاماً المقبلة. وهي خطّة كان المرشد السيد علي خامنئي قد أعلنها بنفسه، مُوجِّهاً بالعمل على تطويرها خلال عامين، تمهيداً لوضعها موضع التنفيذ.

 

تحتفل إيران، في هذه الأيام، بالذكرى السنوية الأربعين لانتصار ثورتها التي قادها الإمام الخميني في وجه محمد رضا شاه، آخر ملوك السلالة البهلوية التي حكمت إيران منذ عام 1925، إثر انقلاب والده رضا شاه بهلوي على أحمد مرزا القاجاري، آخر شاهات الدولة القاجارية. ومع بلوغ الثورة الإيرانية عامها الأربعين، تكون قد أتمّت الجيل الأول من العمر الطبيعي للأمم عند ابن خلدون، الذي قسّم أعمار الدول إلى ثلاثة أجيال، واضعاً لكل جيل حداً زمنياً لا يتجاوز أربعين عاماً. وبغضّ النظر عن صلاحية السقف العمري الذي وضعه ابن خلدون للأمم، إلا أن إيران أظهرت قبل إتمامها السنة الأربعين من عمر ثورتها أنها ستكون أمام مرحلة جديدة بدأتها في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، بإعلان تصميم «النموذج الإسلامي – الإيراني للتقدم»، رابطةً على لسان المرشد الأعلى، السيد علي خامنئي، إنجازه بالذكرى السنوية الأربعين لانتصار الثورة الإيرانية. وقد بيّن المرشد خامنئي، في البلاغ الذي كشف فيه عن هذا النموذج، أن عدة آلاف من الخبراء وأساتذة الجامعات والحوزويين والواعين الشباب استطاعوا إنجاز وثيقته التي رسمت الآفاق المنشودة للبلاد على مدى خمسة عقود مقبلة، مضيفاً أن ذلك الإنجاز جاء بعد سبعة أعوام من الجهود المنظمة.

 

خامنئي، في إطار البلاغ ذاته، لم يكتفِ بما أعلن إنجازه خلال السنوات السبع الماضية، بل كلّف «مركز النموذج الإسلامي – الإيراني» إجراء مشاورات مع المؤسسات الحاكمة في البلاد، كي تبدي ملاحظاتها على هذه الوثيقة، ومن ثم تُقدَّم إليه النسخة المطوّرة للنموذج الإسلامي – الإيراني خلال فترة لا تتعدى عامين في حدٍّ أقصى، وذلك من أجل إتمام إقرارها ووضعها موضع التنفيذ مطلع القرن الخامس عشر هجري شمسي (آذار/ مارس 2021). تجدر الإشارة، هنا، إلى أن خطة الخمسين عاماً المقبلة لإيران، التي تتداولها المؤسسات الحاكمة في طهران هذه الأيام، لم تكن أول خطة طويلة الأمد في عمر الدولة الإيرانية بعد الثورة. ففي الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، أعلن المرشد الإيراني أول خطة طويلة الأمد للبلاد تحت عنوان «وثيقة استراتيجية الجمهورية الإسلامية في إيران لعام 2025»، التي تضمّنت في حينه الأهداف التي تسعى إيران إلى تطبيقها داخلياً وخارجياً خلال العشرين عاماً المقبلة.

 

وعلى رغم أن الوثيقتين متقاطعتان في كونهما خططاً طويلة الأمد، بالإضافة إلى اتفاقهما في عدد من الأهداف والإجراءات، إلا أنهما تختلفان كثيراً في الشكل والمضمون، فضلاً عن الجهة المسؤولة التي كُلّفت إعداد كلّ منهما. فالوثيقة السابقة نتجت من جهد قام به مجمع تشخيص مصلحة النظام بالتنسيق مع حكومة خاتمي الثانية، وبتوجيه خاص من السيد علي خامنئي، واستغرق المجمع عام ونيفاً من أجل إتمام تلك الوثيقة، بينما جاء النموذج الحالي كثمرة لعمل مستقل قام به «المجلس الأعلى لأنموذج التقدم الإسلامي – الإيراني» الذي شكله المرشد في 23 أيار/ مايو 2011 برئاسة الدكتور صادق واعظ زاده، وعضوية تسعة آخرين، من أجل صياغة هذا النموذج بما يتوافق مع احتياجات البلاد وتطلّعاتها.

 

تأمل إيران أن يكون اقتصادها أحد أكبر عشرة اقتصادات في العالم

 

وبالولوج في مضمون الوثيقتين، نجد أن الأولى قائمة على ثلاثة تطلعات تسعى إلى تحقيقها خلال عشرين عاماً، تتلخص في أن «تتبّوأ إيران المنزلة رقم واحد في المنطقة اقتصادياً وعلمياً وتقنياً، وأن تكون مثالاً وقدوة للعالم الإسلامي، وأن تؤثر كذلك على مستوى العلاقات الدولية من خلال تعاملها البنّاء». ووضعت «وثيقة الرؤية المستقبلية» ثماني مواصفات للمجتمع الإيراني الذي سيحقق تلك التطلعات، كذلك فإنها شدّدت في آخر بنودها على «مراعاة قيمة الاستثمارات، ومعدل الدخل، وإجمالي الناتج المحلي، ونسبة العمل مقابل البطالة، ومعدل التضخم، وتدني الفوارق الطبقية، بحيث تكون متناسبة مع أهداف الرؤية المستقبلية عند إعداد الخطط التنموية والموازنات السنوية».

 

أما الوثيقة الجديدة، فجاءت بمضمون أوسع وشكل مختلف، قُسّمت فيه الخطة الخمسينية إلى ركائز وأهداف ورسالة وآفاق وتدابير. واشتملت الركائز على ستة محاور أكدت الفلسفة الإسلامية التي ينطلق منها نظام الثورة الإيرانية في النظر إلى كلّ ما يتعلق بالتوحيد والكون وأهداف وجود الإنسان على هذه الأرض، وسلّطت الضوء على القيم وأثرها على التقدم والنجاح، وأشارت إلى الدين الإسلامي باعتباره الأقدر على صناعة الحضارة بما يحقق الاحتياجات المتجددة زمانياً ومكانياً. وفي الركائز المتعلقة بالمجتمع، بدت الوثيقة أكثر حرصاً على الإشارة إلى المجتمع الديني، الذي أوضحت أن أهم مظاهره تتمثل في «قيام العلاقات الاجتماعية على أساس الأصول والمبادئ والقيم الدينية»، مشدّدة على أن «التدين الفردي لا يضمن تحقق المجتمع الديني».

 

إن الحديث عن المجتمع الديني في الوثيقة الخمسينية الجديدة يأتي بعد إقرار المرشد بعدم وجود مجتمع إسلامي في إيران، وتأكيده في المناسبة نفسها التي جمعته بطلاب الحوزات العلمية صيف عام 2017 أن بلاده حتى الآن استطاعت إيجاد الحركة الثورية، ومن ثم نجحت في إقامة النظام الإسلامي، لكنها ما زالت تسير في طريق صعب من أجل إتمام مرحلة الحكومة الإسلامية، التي تسبق مرحلة إقامة المجتمع الإسلامي.

 

ولم تنفصل أهداف النموذج الإسلامي – الإيراني عن الهدف الأساسي لنظرية ولاية الفقيه، التي يقوم على أساسها نظام الحكم في إيران، فجاء «تحقيق الخلافة الإلهية والحياة الطيبة» كأبرز أهداف النموذج، إلى جانب أهداف أخرى منها «تحقيق الاستقلال والحرية والعدالة والانضباط الاجتماعي».

 

واختصرت وثيقة التقدم الإسلامي – الإيراني رسالة الشعب ونظامه الحاكم بأنها «حركة عقلانية تسير باتجاه صناعة حضارة إسلامية حديثة تتناسب مع أهداف البلاد». ووضع معدّو النموذج آفاقاً تأمل إيران الوصول إليها مع انتهاء المدة الزمنية لهذه الخطة، وكان على رأس تلك الآفاق «التطلع إلى أن يكون كافة أبناء الشعب الإيراني متدينين، ومنطلقين من عائلة إسلامية»، بالإضافة إلى كونهم أصحاب أسلوب حياة إسلامي. وعند ربط هذا التطلّع بمظاهر المجتمع الديني الذي تطرقت إليه الوثيقة من جهة، وبتسلسل المراحل الذي أوضحه السيد علي خامنئي من جهة أخرى، يمكن التنبؤ بأن إيران تسعى لإقامة الحكومة الإسلامية خلال الخمسين عاماً المقبلة، من أجل ترسيخ الأساس الذي يؤهّلها لبناء المجتمع الديني الذي تتطلّع إلى تحقيقه في نهاية الفترة الزمنية المرصودة لهذه الوثيقة.

 

ولم تكتفِ الخطة الخمسينية برسم الآفاق المتعلّقة بالداخل الإيراني وهويته الدينية ونظامه الاجتماعي، بل إنها أظهرت مستوى تطلعات يفوق ذلك الذي حملته الخطة العشرينية، عندما كشفت عن أن إيران تأمل أن «تتبوأ مكاناً بين الدول الخمس المتقدمة عالمياً في إنتاج الفكر والعلم والتقنية، وأن يكون اقتصادها أحد أكبر عشرة اقتصادات في العالم»، بعدما كانت تتطلع وفقاً للخطة السابقة إلى أن تصل في تلك المجالات إلى المرتبة الأولى على مستوى منطقة غرب آسيا. وختم «مركز التقدم الإسلامي – الإيراني» وثيقته بـ56 بنداً سمّاها «مجموعة التدابير». وشملت هذه المجموعة ما بدا أنها خريطة طريق للوصول إلى تلك التطلعات السابقة في المجالات كافة. ولعل اللافت في هذه التدابير أن أهمها لم يكن عبارة عن تدابير كيفية غير قابلة للقياس، بل جاء واضحاً بحيث يمكن ملاحظة نسبة تحققه بعد خمسين عاماً، وخصوصاً ذلك المتعلق بالشق الاقتصادي، وهذا ما تميّز به «نموذج التقدم الإسلامي – الإيراني» عن الخطة العشرينية السابقة. فمن ضمن هذه التدابير، دعت الوثيقة إلى «استقلال ميزانية الحكومة عن مداخيل عائدات المصادر الطبيعية»، وهذا ما تعلن طهران دوماً سعيها إلى تحقيقه. كذلك دعت إلى «التوقف عن بيع المصادر الطبيعية بشكلها الخام في مدة أقصاها 15 عاماً منذ بدء تطبيق نموذج التقدم»، وأن تكون إيران في ذلك الوقت قادرة على بيع تلك المواد بعد أن تكرّرها وتعيد تصنيعها بنفسها.

 

كذلك، اعتبرت الوثيقة أن الموقع الجغرافي لإيران يؤهّلها لأن تكون خط مواصلات عالمياً، ما يجعل إيجاد البنى التحتية المتطورة من مجموعة التدابير التي ستحوّل إيران، بحسب الوثيقة، إلى مركز استراتيجي ثقافي وعلمي وتقني واقتصادي. وتميزت الخطة الجديدة عن الخطة القديمة أيضاً في أنها تطرقت إلى تنمية السياحة الطبيعية والثقافية والدينية والصحية في إيران، على اعتبار أن البلاد تضمّ شبكة واسعة من الأماكن التي تلبي أغراض تلك السياحات المتنوعة، ما سيمكّن طهران من استغلال هذه المميزات الجغرافية للبلاد، كي تُساهم في الوصول إلى تطلّعات إيران المستقبلية. وتقاطع «نموذج التقدم الإسلامي – الإيراني» مع «وثيقة الأفق المستقبلي» السابقة في تأكيد أهمية «تقوية البنية الدفاعية الرادعة».

 

وبما يتوافق مع الخطة العشرينية التي دعت آنذاك إلى أن يكون المجتمع الإيراني مجتمعاً مؤثراً بالوحدة الإسلامية والإقليمية، دعت هذه الوثيقة في تدابيرها إلى «التقريب بين المذاهب الإسلامية، وتكريس الاتحاد بين المسلمين، من خلال تعزيز المشتركات الدينية، وتحاشي إهانة المقدسات الإسلامية». ولم تتوقف تدابير الوثيقة الخمسينية عند هذا الحد، بل أشارت بوضوح إلى جوهر دور طهران الخارجي، وهذا ما ظهر بلا مواربة عندما جعلت الوثيقة السعي الإيراني إلى استيفاء حقوق الشعب الفلسطيني جزءاً لا يتجزأ من خريطة الطريق الإيرانية التي رُسمت للعقود الخمسة المقبلة.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments