فقه التوقع المستقبلي عند الإمام الجويني

فقه التوقع المستقبلي عند الإمام الجويني

2019-07-19 7:00 ص

فقه التوقع المستقبلي عند الإمام الجويني

 

التفكير المستقبلي جزء أصيل من شريعة الإسلام، له قواعده ومناهجه وامتداداته التي تصل إلى اليوم الآخر. وعلى الرغم من ذلك، فإن حيز المستقبل في المنظومة المعرفية عند المسلمين لم يكن متناسبا في عمقه وحجمه وتكييفه في الواقع مع دلالات الشرع ومستلزماته، ولا يدل ذلك – بالطبع – على الإهمال المطلق، بل يؤكد أن حجم التوظيف والتشغيل للتقعيد المستقبلي والنظر المآلي كان ضئيلا.

 

ومن هذا الكم الضئيل تجربتان لم تأخذا حقهما من التأصيل والتجريد، ولم يلق الضوء على مسيرة البناء عليهما.

 

التجربة الأولى: تجربة السادة الأحناف، متمثلة في الفقه الافتراضي.

 

والتجربة الثانية: تجربة إمام الحرمين الجويني في «الغياثي»، وهي مقصودنا هنا، لأنها أكثر نضجا ومنهجية وواقعية من سابقتها.

 

هذه التجربة يمثلها كتابه «غياث الأمم في التياث الظلم» الذي يمثل عنوانه هدفا ومقصدا ومنهجا في آن واحد. يقول د. عبدالعظيم الديب عن مقصود عنوان الكتاب الذي سجله الجويني على صدر كتابه: «فكأن المعنى: هذا ما تغاث به الأمم عندما تلتف بها الظلمات، أي إنه يقدم المنهاج الذي تغاث به الأمم عندما تحيط بها الظلمات، أي عندما يخلو الزمان من إمام ومن مفت ومن حملة الشريعة وعلمائها» (1).

 

مؤسس فقه التوقع

 

الجويني هو مؤسس فقه التوقع وباني أركانه، فهو إمام فيه، كما هو إمام في المقاصد، وهو «أول من روض مدارج الفقه في التوقعات، واستشعر ضرورة التفكير في أفضل المآلات وأسوأ الحالات التي يمكن أن تحل بالأمة أو طوائف منها انقطعت عنها شوكة الإمام أو استحرت معضلة عامة بجماعة من الجماعات، فاستقبل هذا الفقه واستفتحه بأحكم المناهج، وأيسر المسالك، ليعم رفع الحرج كل الأزمنة والأعصر، وتفوق مقاصد الشرع وتتجلى، وتعلو راية الشريعة وتترقى، في كل الظروف والأحوال والمستجدات» (2).

 

ولم تكن تجربة الإمام نابعة من خيال الفقيه الفضفاض، وقدرته التفريعية، بل كانت نابعة من ملاحظة الواقع المعيش واستقراء أحداث عصره ومآلاته في المستقبل، يريد بذلك أن يعالج واقعا مترديا استمد منه نظرة استشرافية لما يمكن أن يقع من أحداث في المستقبل، قاصدا معالجة الواقع والمتوقع.

 

ومن الملاحظ أنها خطوة تعدت الافتراض الفقهي الجزئي الذي يعنى بمسائل فقهية قليلة تمر بعقلية الفقيه الخيالية، تعدت ذلك إلى افتراض كليات وقضايا كبيرة تهم الأمة، كما أن إمام الحرمين لم يقدم طروحاته وتوقعاته بشكل افتراضي نظري فحسب، بل نحا بها منحى التأصيل والتطبيق، فهي تجربة افتراضية نظرية عملية.

 

وليس المقصود من قراءة هذه التجربة الجمود عليها وحفظ ما توصلت إليه من أحكام وآراء، بل قد نختلف معها فيما توصلت إليه، وربما أيضا لا تصلح تطبيقا لواقع ولا لمتوقع، وإنما المقصود معرفة كيفية بنائها واستخراج منهجيتها وفهم أسسها، وذلك كله بغية استلهامها واستثمارها.

 

دراسة وصفية

 

لقد افترض الجويني افتراضات كلية وقضايا عامة، وتناثرت بينها افتراضات أخر متعلقة بجزئيات ومسائل مندرجة تحت كلياتها، وفي كل ذلك يبين عن معالجة للواقع والمتوقع، ويمكن حصر كليات القضايا المتوقعة في ركنين رئيسيين:

 

الركن الأول: تقدير خلو الزمان من الأئمة وولاة الأمة (فراغ السلطة السياسية أو فسادها).

 

ويحدد مقصده من هذا الركن بقوله: «ثم أقدر شغور الحين عن حماة الدين وولاة المسلمين، وأوضح إذ ذاك مرتبط قضايا الولاية، وأنهي الكلام إلى منتهى الغاية، فإنه المقصود بالدرك والدراية…» (3).

 

أي مقصوده تبين طريقة إدارة الأمة حالة غياب الإمام، فبعد أن بين الوضع المثالي للأمة، أتبعه بالوصف المتوقع للأمة الذي يعتريها على مستوى القيادة والإدارة، فكيف يدير المسلمون شؤونهم؟

 

مضمون هذا الركن تحويه ثلاثة أبواب (4).

 

الأول – تصور انخرام الصفات المرعية جملة أو تفصيلا.

 

الثاني – استيلاء مستول مستظهر بطول وشوكة وصول.

 

الثالث – شغور الدهر جملة عن وال بنفسه أو متول بتولية غيره.

 

والركن الثاني: خلو الزمان من المجتهدين ونقلة المذاهب وأصول الشريعة (فراغ السلطة العلمية أو انحرافها).

 

وفيه مراتب:

 

المرتبة الأولى: اشتمال الزمان على المفتين والمجتهدين.

 

المرتبة الثانية: فيما إذا خلا الزمان من المجتهدين وبقي نقلة المذاهب.

 

المرتبة الثالثة: في خلو الزمان من المفتين ونقلة المذاهب.

 

المرتبة الرابعة: في خلو الزمان من أصول الشريعة (5).

 

وانتهج الإمام منهجا مقاصديا في معالجة هذه التوقعات، فبنى عليه أحكامه، وأسسها مرجعية علمية عند فقد العلماء.

 

ورعاية المقاصد سمة من سمات فقه الإمام عموما، فهو كما قيل إمام الفكر المقاصدي، و«الغياثي» تطبيق لمقاصد الشريعة في فقه الحكم والسياسة (6).

 

ويصرح الجويني في مواطن كثيرة بأهمية المقاصد ونجاعتها في فقه التوقع: «فلو قال قائل: ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ومآخذ الأحكام متناهية، فكيف يشتمل ما يتناهى على ما لا يتناهى، وهذا إعضال لا يبوء بحمله إلا موفق ريان من علوم الشريعة.

 

فنقول: للشرع مبنى بديع، وأس هو منشأ كل تفصيل وتفريع، وهو معتمد المفتي في الهداية الكلية والدراية، وهو المشير إلى استرسال أحكام الله على الوقائع مع نفي النهاية…» (7).

 

«أي إن للشرع مقاصد وحكما ارتبطت الفروع الفقهية بها، وامتزجت بموجباتها، فمن هنا لم يكن للمفتي أو المجتهد بد من الاعتماد عليها، لا سيما إذا ظهرت وقائع مستجدة، هي من الكثرة بحيث لا نهاية لها» (8).

 

وقد علل الدكتور عبدالمجيد الصغير تعلق الإمام بالمقاصد ومحاولة تقنينها في كتابه «الغياثي» في توقعات قضاياه الكلية، حيث ربط ذلك بمشروع إنقاذي للأمة حال التراجع السياسي، والانحطاط الحضاري فقال: «تميز الجويني عن سالفيه ومعاصريه بشيئين اثنين: طرحه لأول مرة موضوع مقاصد الشريعة كعلم جديد متميز بقواطع أدلته، ثم إناطته بهذا العلم المتميز أخطر مهمة، مهمة الإنقاذ السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي من الهوة التي رآها وشيكة الوقوع… فلم ير الجويني منقذا من هذا الوضع المتردي سوى تأسيس القول في مقاصد الشريعة الكلية والرفع بها من مستوى الظن، الذي هو سمة الفقه وأصوله إلى مستوى قواطع الأدلة» (9).

 

القواعد المستقبلية

 

هذه القواعد هي أصول ضابطة وحاكمة لفقه التوقع، استقرأها الإمام من «نخل الشريعة من مطلعها إلى مقطعها… وإنعام النظر في أصولها وفصولها… واستبانة كلياتها وجزئياتها» (10)، أراد بها أن تكون مرجعية قطعية يتخذها الناس مرجعهم في التكييف الشرعي لنوازلهم وواقعهم في زمنهم الخالي عن العلماء ونقلتهم.

 

وتحاول هذا القواعد أيضا أن تؤسس لفقه التوقع وتؤصل لمشروعيته، وتبين لنا سبيل الاستنباط في مثل هذه الوقائع، ويكفيني هنا لضيق المساحة أن أشير إلى بعض تلك القواعد:

 

– «فإن المنصوصات متناهية مضبوطة، والوقائع المتوقعة لا نهاية لها». ف: 575.

 

– «والأمور في الولايات إذا لم تؤخذ من مباديها، جرت أمورا يعسر تداركها عند تماديها». ف: 373.

 

– «فإن منع المبادي أهون من قطع التمادي». ف: 269.

 

– «لو فرضنا خلو الزمان عن مطاع، لوجب على المكلفين القيام بفرائض الكفايات، من غير أن يرتقبوا مرجعا». ف: 394.

 

– «والمسدد من نظر في أولاه لعاقبته، وتزود من مكنته في دنياه لآخرته». ف: 537.

 

– «وقد تمهد أن ما لم يقم عليه دليل التحريم، فلا حرج فيه في الزمان الشاغر عن حملة العلوم بتفاصيل الشريعة، فهذا منتهى المقصد فيما يتعلق بالمعاملات» ف: 787.

 

– «إذا درست فروع الشريعة وأصولها، ولم يبق معتصم يرجع إليه، ويعول عليه، انقطعت التكاليف عن العباد، والتحقت أحوالهم بأحوال الذين لم يبلغهم دعوة، ولم تنط بهم شريعة». ف: 844.

 

المصطلح المستقبلي

 

تأسيس المصطلحات ومعرفتها ركن أساسي في بناء العلم، وتمهيد قاعدته الأولى، كما أن ابتكار المصطلحات وغناءها دال على نضج المعنى ووضوح الفكرة المعبر عنها، وهذا ما نجد أصداءه في «الغياثي»، إذ قدم الجويني مجموعة من المصطلحات التأسيسية الريادية التي تغطي جوانب الفقه المستقبلي وتؤسس لمعالمه، وتؤصل لمشروعيته.

 

ولست في مجال إحصائها ودراستها دراسة اصطلاحية، وإنما أحاول التنبيه على تأسيس الجويني لمصطلح التوقع ومفاهيمه، لنتعرف على مدى نضوج فكرته ووضوحها.

 

ومن ذلكم:

 

مصطلح التوقع ومشتقاته (المتوقع والمتوقعة، وتوقع ويتوقع، وغيرها من الاشتقاقات)، مصطلح المستقبل، مصطلح المرتقب ومشتقاته، مصطلح المآل، مصطلح الافتراض، مصطلح التخيل.

 

كما أننا سنجد جملا واصطلاحات أخر دالة على ذلك الفقه، مثل: بنو الزمان، وعلماء الزمان، خلو الزمان، وشغور الحين أو الزمان.

 

ظروف النشأة

 

المتأمل في توقعات الجويني يجد أنها متعلقة بالإمام، والعلماء، والشريعة، وهذه قضايا كبرى تتعلق بعموم الأمة قاطبة، واستقرأ واقع هذا القضايا وبحث أوضاعها واستشرف مستقبلها، ورصدت جملة من النصوص الدالة على ذلك، ففيها بيان لسبب الاهتمام ونشأة الافتراضات، وأوضح نص يبين فيه سبب وضعه الكتاب قوله: … إني وضعت هذا الكتاب لأمر عظيم، فإني تخيلت انحلال الشريعة وانقراض حملتها، ورغبة الناس عن طلبها، وإضراب الخلق عن الاهتمام بها، وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون، ولا يخلفون، والمتسمون بالطلب يرضون بالاستطراف… وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها… فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه، لانقرض علماء الشريعة على قرب وكثب، ولا تخلفهم إلا التصانيف والكتب.

 

ثم لا يستقل بكتب الشريعة على كثرتها واختلافها مستقل بالمطالعة من غير مراجعة مع مرشد، وسؤال عن عالم مسدد، فجمعت هذه الفصول وأملت أن يشيع منها نسخ في الأقطار والأمصار، ولو عثر عليها بنو الزمان لأوشك أن يفهموها، لأنها قواطع، ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاذهم معاذهم، فيحيطوا بما عليهم من التكاليف في زمانهم، ويحفظونه لصغر حجمه، واتساق نظمه» (11).

 

لقد كانت الملاحظة والمعاينة لواقعه وقضاياه الكبرى مسلكا من مسالك قراءة المستقبل واستشرافه، وسببا إلى وضع افتراضاته ومناقشتها ومعالجتها لهذا المتوقع القابل.

 

ويهدف الجويني فيما يهدف إليه من رؤيته المستقبلية إلى غياث الأمة وانتشالها من غياهب الظلم وإنقاذها من وهاد الواقع وحفره، وطرح البدائل والحلول التي تسعفها وتخفف من وطأة آثار انهيار أو انحراف السلطات العلمية والسياسية.

 

الهوامش

 

1- مقدمة محقق الكتاب، د. عبدالعظيم الديب، 94، 212.

 

2- فقه التوقع.. مفهومه وعلاقته بالمآل، نجم الدين الزنكي، مؤتمر فقه الواقع والتوقع بالكويت.

 

3- «الغياثي»، فقرة: 9.

 

4- «الغياثي»، فقرة: 436.

 

5- «الغياثي»، فقرة: 568.

 

6- انظر: فقه إمام الحرمين.. خصائصه وأثره ومنزلته، د. عبدالعظيم الديب، 319.

 

7- «الغياثي»، فقرة: 644 و645.

 

8- مقاصد الشريعة عند إمام الحرمين، د. هشام أزهر، 64.

 

9- الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، 355، 356.

 

10- «الغياثي»، فقرة: 567.

 

11- «الغياثي»، فقرة: 837.

 

المصدر

1 1 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments