فقه المآلات | أمين بن منصور الدعيس

فقه المآلات | أمين بن منصور الدعيس

2019-11-08 7:59 م

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

 

إن القاريء لمثل قول الله تعالى: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم﴾. وقوله: ﴿فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج﴾. وقوله: ﴿يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾. وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما أشير عليه بقتل المنافقين: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه). وقوله للأعرابي لما بال في المسجد: (لا تزرموه)، إلى غير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة من هذا الباب يرى أن الشارع الحكيم قصد إلى اعتبار مآلات التشريع سواء في ذلك مقام الأمر أو النهي، فمن المعلوم أن تكاليف الشارع إنما جاءت على وفق مصالح العباد الدنيوية العالجلة أو الأخروية الآجلة، ومن هنا فإن الناظر في فقه الشريعة قد يقع له في بعض الأحيان قدر من التردد في الجزم ببعض الأحكام الشرعية، وموجب ذلك ما يتنازعهامن أصل جواز الفعل مع ما يؤول إليه ذلك الفعل من المفسدة، أو من أصل ترك الفعل وما يؤول إليه من دفع مفسدة راجحة، فعند هذا التردد يظهر الفقيه حقا من المتفقه، فإن هذا الباب من العلم أعني اعتبار مآلات الأحكام الشرعية وما يترتب عليها من المفاسد والمصالح باب عزيز من العلم لا يحسن النظر فيه كل أحد، بل لا بد في الناظر فيه أن يكون على قدر راسخ من العلم والتحقيق، مع بعد نظر وأفق واسع في معرفة أحوال المكلفين، وأحوال الأمة وما يحتف بها من التغيرات، قال الشاطبي: «وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة».

 

والمتأمل في كلام أئمة الفقه وأعيانه يقع له قدر صالح من التطبيقات في هذا الباب من العلم في جملة مما قرروه في قواعد الاستدلال والنظر، فمن ذلك اعتبار جمهورهم لقاعدة سد الذرائع سلبا وإيجابا، وقاعدة الحيل والمنع منها، ولا يعترض على هذا بأن بعض الفقهاء قال بجواز الحيل في الجملة، فإن من صار إلى هذا القول إذا تأملت تطبيقاتهم وجدتها لا تنفك عن اعتبار حكم المآلات، ودليل ذلك أنه لا يحفظ عن أحد منهم أنه صار إلى القول بالحيل بقصد صريح منه إلى اطراح الحكم الشرعي وإسقاطه بالحيل.

 

والمقصود أن فقه اعتبار المآلات مما ينبغي الاعتناء به وتقريره عند النظر في الأحكام الشرعية، لا سيما عند القول في الأحكام العامة التي تشمل عامة الأمة ومن أخص ذلك وأضيقه مقام الدماء والفتن، فلا بد فيها من نظر في النصوص الشرعية، والمصالح المرعية، فليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما هو خير في مقام يكون كذلك في غيره، ومن جملة التأخر في الفهم ربط مقام الديانة والعلم والورع بكثرة التقول في هذا المقام تحت معنى الصدع بالحق، ومثل هذا مخالف لما كان عليه سلف هذه الأمة، فإنهم كانوا يعدون القول في الفتن والدماء من جملة البلاء، الذي الفاضل فيه طلب العافية، قال مطرف بن عبد الله: لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إلي من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير.

 

ومن تم عقله وحسن فقه علم أن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وأن من خذلان الله لعبده أن يشغله فيما لا يعنيه، ولكل باب من العلم رجاله فليس حمى العلم كلأً مباحا لكل أحد، فتستجر الأمة إلى ضيق من القول لا يناسب حالها واستطاعتها، فلا تقتل صيدا ولا تنكي عدوا، بل لا تكسر سنا ولا تفقأ عينا، فإذا ذاقت من ذلك الأمرين قُصد إلى تراجعات باردة لا غناء فيها ولا سِمن.

 

ثم إن مما يبين أهمية اعتبار هذا الباب من العلم أن المتأمل في أحكام الشارع في الغالب الأعم منها يرى أنها جاءت على وجه من مراعاة الحكمة التي في مقدور المكلف إدراكها والبناء عليها، ولا يشكل على ذلك أن جملة من الأحكام الشرعية قد لا تتبين فيها الحكمة الشرعية لكل أحد، فإن أصل مقصود الشارع هو تحقيق العبودية لله عز وجل، بغض النظر عن فقه الحِكم الشرعية من عدمها، قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾. والله أعلم.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments