مستقبليات | د. محمد زهران

مستقبليات | د. محمد زهران

2022-12-26 10:22 م

مستقبليات | د. محمد زهران*

 

هناك دائما ولع بمحاولة استشراف المستقبل سواء كي نستعد له أو نحاول تحقيقه أو حتى من باب الرياضة الذهنية، هناك علم مستقل اسمه علم المستقبليات الذي يبحث في العوامل المؤثرة في حياة الناس ومدى تأثيرها في المستقبل، هناك بعض الشركات قائمة على تقديم استشارات للشركات الأخرى بناء على التنبؤ بالتطور العلمي والتكنولوجي وكيف تستعد الشركات لها عن طريق ترتيب أولوياتها. هذا المقال هو محاولة استشراف مستقبل التكنولوجيا في ربع القرن القادم، التقدم التكنولوجي لا يعتمد فقط على التطور العلمي لكن هناك عوامل أخرى قد تؤدي إلى تأخر ظهور تكنولوجيا معينة حتى وإن كانت إمكانية ظهورها موجودة. من هذه العوامل الحالة الاقتصادية، كلما كان الاقتصاد يعاني من اضطرابات كلما قلصت الدول الكبرى والشركات عابرة القارات الميزانية الموجهة لتكنولوجيا الرفاهية. من العوامل الأخرى المؤسفة هي الطمع والفساد، فقد تقرر شركة كبرى تأخير ظهور تكنولوجيا جديدة أفضل حتى لا تفقد عوائد التكنولوجيا الحالية مثل تأخير ظهور دواء أكثر فعالية لمرض ما حتى تحصل شركة أدوية على عائد مما أنفقته على تطوير الدواء الحالي، أو تأخير البحث العلمي لتطوير دواء ما إذا لم يكن من المتوقع الحصول على أرباح منه لأنه يعالج مرضا أغلب المصابين به من الفقراء مثلا. من أسباب تأخر ظهور تكنولوجيا معينة هو السرية التي قد تضعها بعض الدول عليها حتى تستفيد منها أقصى استفادة قبل جعلها على المشاع. لكل هذه الأسباب قد تكون بعض توقعات مستقبل التكنولوجيا خاطئة. مع وضع كل ذلك في الاعتبار لنبدأ توقعاتنا.

 

أولاً: أنواع الذكاء الاصطناعي المستخدمة حاليا في التطبيقات ستتطور تطورا كبيرا في المستقبل، التطبيقات الحالية تحتاج معلومات كثيرة حتى «تتدرب» على المهمة التي ستقوم بها (مثل تشخيص مرض عن طريق قراءة التحليلات الطبية للمريض)، في المستقبل ستحتاج تلك التطبيقات معلومات أقل بل وستقوم باستخدام معلومات غير كاملة للتعلم وستصل لدرجة عالية من الكفاءة، أيضا التطبيقات الحالية تقوم بمهمة واحدة فقط بكفاءة ولا تستطيع القيام بمهام أخرى أي إننا نحتاج تطبيقا لكل مهمة نريد استخدام الذكاء الاصطناعي فيها، التطبيقات المستقبلية ستتمكن من استخدام «الخبرات» التي اكتسبها في مهمة ما في مهمات مختلفة، مثلا تطبيق الذكاء الاصطناعي الذي سيقود السيارات ذاتية القيادة يمكنه استخدام تلك الخبرة في تحديد السرعات المرورية واتجاه المرور في الشوارع المختلفة لمدينة ما، بهذا ستقترب تلك البرمجيات «قليلا» مما يستطيع العقل البشري عمله ببساطة، أي استخدام ونقل الخبرات. لا يتوقع كاتب هذه السطور أن يصبح عندنا «عقل» صناعي يشبه العقل البشري في المستقبل لعدة أسباب منها أننا ما زلنا لا نملك كل المعلومات عن كيفية عمل المخ البشري ناهيك عن العقل، ومنها أننا ما زلنا نجهل ماهية الوعي (consciousness) وتفاعله مع العمليات العقلية، ومنها أن الكثير من اختياراتنا تعتمد على ثقافتنا وإدخال الثقافة في الذكاء الاصطناعي ما زال حلما بعيد المنال. بعيدا عن ذلك كله هناك سؤال مهم: ماذا سنستفيد إذا بنينا «عقلا» صناعي يشبه الحقيقي؟

 

ثانياً: ستكون أغلب مدن العالم ذكية، تخيل معي مدينة كل سياراتها ذاتية القيادة وترسل معلومات باستمرار عبر الانترنت إلى أجهزة كمبيوتر تقوم بتحليل تلك المعلومات بالإضافة إلى المعلومات التي تأتي على نحو مستمر من المجسات الموجودة في الطرق التي تقيس عدد السيارات في كل شارع وسرعتها وكفاءة الطرق إلخ، ثم تقوم تلك الأجهزة فائقة السرعة بالتحكم في إشارات المرور والطرق التي تأخذها كل سيارة لتصل لهدفها بحيث يقل أو ينعدم الاختناق المروري وتختفى حوادث الطرق بالكامل. هذا السيناريو هو التطور الطبيعي لإنترنت الأشياء وأجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. طبعا هذا غيض من فيض لأن المدن الذكية تحوي ما هو أكثر من المرور مثل توليد واستخدام الطاقة بكفاءة واستخدام الموارد المائية لتقليل الفاقد بنسبة كبيرة إلخ.

 

ثالثاً: سنكون في عصر الأدوية الشخصية، أي إن جهاز الكمبيوتر سيقوم بتحليل جسم شخص ما ومراجعة جميع تحليلاته الطبية وتاريخ أسرته إلخ ثم ستقوم بتصنيع دواء مخصص لهذا الشخص فقط وإذا تعاطاه شخص آخر قد يموت، أعتقد أن تخليص العالم من مرض مثل السرطان سيأتي من تلك الناحية (personalized medicine) والذي يحتاج أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة وتطبيقات متقدمة للذكاء الاصطناعي وأجهزة طبية وكيميائية متقدمة.

هذه كانت رحلة سريعة جدا في بعض التكنولوجيات التي قد توجد في المستقبل القريب، لاحظ أننا لم نقل إن جميع الأمراض ستختفي، لأن الطبيعة ستظل دائما متقدمة على الإنسان بخطوات حتى تذكرنا بجهلنا.

 

 

*محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك في تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه في نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.

 

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments