واقع الدراسات المستقبلية في العالم العربي

واقع الدراسات المستقبلية في العالم العربي

2019-09-20 3:00 ص
الكاتب :

أضحت قضية التنبؤ بما سيصبح عليه مصير الإنسان والمجتمعات محور اهتمام الكثيرين، كونها ذات صلة بالزمن بأبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، ومن هنا جاءت أهمية الدراسات المستقبلية التي تُساعد على تحديد ملامح الغد، لذا نجد أن معظم دول العالم قد اعتمدت عليها في وضع سياساتها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتجنب التغيرات السلبية المتوقع حدوثها لتؤثر على فعالية هذه الخطط والسياسات.

 

تطور الدراسات المستقبلية

 

ثمة جدال كبير بين الباحثين حول تحديد الفترة الزمنية التي نشأت فيها الدراسات المستقبلية، إلا أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد ارتفاعا في عدد من الكتابات التي تنتمي لحقل الدراسات المستقبلية، فنجد فرانسيس بيكون يطرح في كتابه “أطلنطا الجديدة” رؤية لمستقبل العالم من خلال تخيله لمجتمع جديد يقوم على أسس علمانية عمادها العلم ويهدف لتحقيق مستويات الرفاهية في كافة نواحي الحياة، إلا أن بدايات هذا العلم ترجع إلى المجتمعات الغربية المعاصرة، والتي اهتمت بالمستقبليات على نحو متزايد وربطته بالاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والثقافة ليعطي لها صفة الشمولية.

 

وقسم العلماء تطور الدراسات المستقبلية إلى ثلاث مراحل وهي:

 

–        المرحلة الأولى اليوتوبيا: ترجع إلى رؤية أفلاطون عما يجب أن يكون عليه المجتمع بالمستقبل، والتي قدمها في إطار المدينة الفاضلة التي تقوم على العدالة، ثم ظهرت الفكرة مرة أخرى عندما قدم القديس أوغسطين تصوره للصراع بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وتناولها بشكل مغاير أيضاً توماس مور في تصوره للمجتمع المثالي الذي تختفي فيه أشكال العنف والظلم، وبرغم هذه الجهود إلا أن الحديث عن المستقبليات بشكل منهجي يرجع إلى كتابات مفكري القرن التاسع عشر أمثال توماس مالتوس في نظريته عن الكثافة السكانية، والبعض يرجعها إلى أبعد من تلك الفترة وبالتحديد إلى أعمال المفكر الفرنسي المركيز دو كوندورسيه، في مؤلفه “مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري” الصادر عام 1793، والذي استخدم فيه أسلوبين للتنبؤ هما التنبؤ الاستقرائي والتنبؤ الشرطي.

 

–       المرحلة الثانية التخطيط: بدأت مع قيام حكومة الاتحاد السوفيتي بإنشاء لجنة لوضع خطة حكومية لتعميم الكهرباء في مختلف أنحاء البلاد، وتزامن ذلك مع قيام مجلة الغد في المملكة المتحدة عام 1938، والتي نادت بأهمية تدشين وزارة للمستقبل في بريطانيا، ثم مع الرؤية التشاؤمية التي اجتاحت العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، قل الاهتمام بدراسات المستقبل، إلا أن الفيلسوف الفرنسي غاستون بيرغر قاوم ذلك الوضع وأنشأ المركز الدولي للاستشراف عام 1957 حث فيه الباحثين على رؤية الغد بشكل أكثر تفاؤلاً.

 

ومنذ ذلك الحين حدث تطور نوعي يرجع إلى ما قام به الفرنسي بيرتراند دو جوفينل بالتعاون مع مؤسسة فورد الأمريكية، وأعد مشروع “المستقبلات الممكنة” والذي أكد فيه أن المستقبل ليس قدرا وإنما اختيارا عن طريق التدخل الواعي، ومن هنا بدء التطور الفعلي في الدراسات المستقبلية، وصاحب ذلك إنشاء الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية عام 1967، بما دفع المؤسسة العسكرية الأمريكية للاهتمام بها وتوظيفها لصالح الأمن القومي الأمريكي.

 

–       المرحلة الثالثة النماذج العالمية: اتسمت هذه المرحلة بالتركيز على مستقبل المجتمع الدولي، والموضوعات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والإرهاب والتدخل الإنساني، وكان من أهم الأفكار التي طُرحت في هذا الصدد، هي تلك التي خرجت عن نادي روما وربطت بين تنامي ظاهرة الاعتماد المتبادل عالمياً وما تفرضه من ضرورة تطوير منهجيات الدراسات المستقبلية لمعرفة تداعيات هذه الظاهرة، ومن أبرز رواد هذه المرحلة هو العالم الأمريكي بكمنستر فولر الذي قدم نموذجه The Game Of The World ثم طوره فيما بعد ليصبح Great Logistic Game، وكان هدفه من تسميتها لعبة هو فكرة المشاركة الجماعية من جانب أفراد المجتمع بجوار النخبة في إطار التعامل مع المشكلات التي يواجهها العالم.(1)

 

أهمية دراسة المستقبل

 

تنبع أهمية الدراسات المستقبلية من حتميتها للدول المتقدمة والنامية على حد سواء، برغم أن 97% من إجمالي الإنفاق على الدراسات المستقبلية يكون من جانب الدول المتقدمة بينما 3% من جانب الدول النامية، ويأتي هذا الاهتمام بها في العالم الصناعي المتقدم لكونها تعمل على رسم خريطة كلية للمستقبل عن طريق استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والمحتمل حدوثها مستقبلاً، إلى جانب مساعدتها في توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الخيارات المناسبة عند المفاضلة بين عدد من البدائل.

 

وفي السياق ذاته، تساعد على التخفيف من حدة الأزمات عن طريق التنبؤ بها والاستعداد لمواجهتها قبل أن تتحول إلى كوارث، وتلعب دوراً هاماً في مجال التخطيط الاستراتيجي عن طريق توفير الصور المستقبلية، لخدمة الأغراض العسكرية وإدارة الصراعات المسلحة أو حتى للأغراض المدنية عن طريق إدارة المؤسسات والشركات الكبرى متعددة الجنسية.

 

كما تُحسن من قدرة صانع القرار على التأثير في المستقبل من خلال اقتراح مجموعة من الوسائل لحل المشكلات وزيادة درجة حرية الاختيار والوصول للأهداف، والتنبؤ بالآثار المستقبلية لهذه السياسات. وتعمل على زيادة المشاركة الديمقراطية في صنع المستقبل، باعتبار أنها تتم في إطار فريق عمل يجمع متخصصين في مجالات شتى(2).

 

الدراسات المستقبلية في الدول العربية

 

ترجع بداية الاهتمام بالدراسات المستقبلية في الوطن العربي إلى السبعينيات من القرن العشرين، وكانت الإسهامات في تلك الفترة محدودة ومتقطعة، ثم بدأت تتزايد أهميتها مع حلول الثمانينيات والتسعينيات، وذلك بسبب الحاجة إلى التعرف على مستقبل عملية التنمية في ضوء العوامل الإقليمية والدولية، والتي شكلت قضية ملحة في مستقبل المنطقة كالصراع العربي الإسرائيلي، وتزايد حدة التوترات الإثنية والمخاطر المستقبلية المترتبة عليها.

 

وظهرت في هذا الوقت مشاريع مستقبلية ذات انعكاسات هامة على الدول العربية كمشروع القرن الأمريكي الجديد عام 2002، والذى هدف إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية، وتأسيس نظام إقليمي جديد بديل للنظام العربي، إلى جانب خطة مايكل لادين عن تغيير الشرق الأوسط من الداخل في عشر سنوات، وتقارير مؤسسة “هيريتاج” عن إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وما طرحته إسرائيل من خطط مستقبلية مثل إسرائيل 2020 وإسرائيل 2025 وغيره.

 

ويطرح في هذا الصدد الباحث محمد إبراهيم منصور في دراسته المعنونة “الدراسات المستقبلية: ماهيتها وأهمية توطينها عربياً” المنشورة بمجلة المستقبل العربي، رؤيته بأن أي محاولات لحل تلك القضايا العربية الكبرى ستظل خارج إطار التفعيل، ومنها على سبيل المثال الأوضاع القائمة في ضوء موجة “الربيع العربي” والتي نتج عنها سقوط نظم سلطوية عتيدة، وخلفت في بعض حالاتها نظما جديدة لا تمتلك رؤية لإدارة المرحلة الانتقالية بها، وقد أرجع الكاتب السبب الرئيسي لذلك إلى غياب الدراسة العلمية لاحتمالاتها المستقبلية، وكانت رؤية مصر 2030 هي الدراسة الوحيدة التي خرجت عن تلك القاعدة.

 

بصفة عامة يمكن القول بأن مجال البحوث السياسية والاستراتيجية في الأقطار العربية يُعاني من غياب الرؤية المستقبلية، وإن تمت مثل هذه الدراسات فإنها لا تخرج عن النطاق الأكاديمي، ولا تتطور لتُصبح جزءا من طريقة الفكر الاجتماعي أو حتى الممارسة الفعلية من جانب الحكومات أو الأفراد(3).

 

أسباب عزوف المجتمعات العربية عن الدراسات المستقبلية

 

هناك مجموعة من العوامل تقف وراء غياب الدراسات العلمية المستقبلية في العالم العربي تبدأ من غياب ثقافة تنظيم الحياة وفق خطط مدروسة تأخذ في الاعتبار الإمكانات المتوفرة والممكنة في كل مجال من مجالات الحياة، وهو ما يتضح في حالة رب الأسرة ذي الدخل المحدود، والذي يُنجب عشرة أطفال بدون أي تخطيط منه لكيفية توفير احتياجاتهم في كل مرحلة من مراحل نموهم، ومن الجدير بالذكر أن انعدام تلك الثقافة على مستوى الأسرة إنما ينعكس على مستوى الدولة.

 

ويُعد انتشار أفكار التواكلية والقدرية القائمة على التفسير الخاطئ للدين، إلى جانب النظرة العربية المتوارثة عن الزمن من أهم هذه الأسباب أيضاً، فنظرة الإنسان العربي للزمن في معظمها تتسم بالتشاؤم، وهو ما استنتجه العلماء أمثال الدكتور فهمى جدعان الذي يرى أن التاريخ الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين كان يقوم على “حتمية التقدم إلى الأسوأ”، ويشير الكاتب حسين علاوي خليفة نقلاً عن الدكتور فؤاد زكريا بأن هذا الموقف من الزمن لازال كما هو بالثقافة العربية الحالية.

 

من ناحية أخرى، فإن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم العربي، بما تُسببه من انكفاء المواطنين على الذات وعدم الاطلاع على التجارب المعاصرة، تؤدى في نهاية المطاف إلى حالة خوف من المستقبل(4).

 

لذا، فإن أي محاولات للنهوض بحال الدراسات المستقبلية في العالم العربي إنما ينبني على مكافحة أسباب العزوف المذكورة أعلاه، وقُدمت بالفعل العديد من الاقتراحات لتحقيق ذلك، كان من أبرزها ما عرضه الدكتور نادر فرجاني في الندوة التي عقدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس 2014 عن الدراسات المستقبلية في الوطن العربي، حيث نادى بأن النهضة الإنسانية في المجتمعات العربية باعتبارها المسار المستقبلي العربي، يجب أن تتأسس على ثلاث ركائز أساسية وهي ضمان الحرية والحكم الديمقراطي الصالح، وإقامة مجتمع المعرفة، وإحداث إصلاح جذري في البنى المجتمعية وتحقيق التنمية الإنسانية المستقلة(5).

 

المراجع

1 – أماني عاطف وغادة محسن وآخرون، منهجيات الدراسات المستقبلية، (القاهرة: مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، يونيو 2012)، ص ص  9-15.

 

2 – محمد إبراهيم منصور، توطين الدراسات المستقبلية في الثقافة العربية: الأهمية والصعوبات والشروط، (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، وحدة الدراسات المستقبلية، 2016)، ص ص 27-28.

 

3 – محمد إبراهيم منصور، “الدراسات المستقبلية: ماهيتها وأهمية توطينها عربياً“، مجلة المستقبل العربي، العدد416، أكتوبر 2013، ص ص 42-44.

 

4 – حسين علاوي خليفة، الدراسات المستقبلية وإشكالية التوطين في مراكز الدراسات: حالة الخليج، موقع آراء حول الخليج، على الرابط التالي:

 

5 – نادر فرجاني، التوجهات الرئيسية في الدراسات القادمة لاستشراف المستقبل في الوطن العربي، ورقة مقدمة لندوة الدراسات المستقبلية في الوطن العربي: الحال والمآل، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 22-24 سبتمبر 2014، ص ص 42-43.

 

المصدر

0 0 vote
Article Rating

اترك تعليقاً

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments